
أرسلت جائزة مصطفى وعلى أمين هذا العام رسالة اطمئنان للشارع الصحفى المصرى وهو يحاول التكيف مع أزماته المهنية المتلاحقة، وصعوباتها الاقتصادية الخانقة، والتطورات المتسارعة فى صناعة الصحافة والإعلام عموما، فعبر مكونات هذه المهنة السامية هناك تداخل عميق بين أطراف متعددة فى صياغة الحل، وتحديد المشكلات، ورؤيتها، نحو مستقبلها، فى نقطة فارق تاريخها بين الشارع، أو المستهلكين الذين يستخدمون الإعلام، أو ملاك الصحف، سواء كانت مؤسسات عامة، أو خاصة، أو حزبية – وبين المناخ الإعلامى المتغير، والمتسارع، فى تطورات تكنولوجية يصعب على الخيال متابعتها.
والإشارة – التى التقطُتها من جائزة الأخوين أمين فى العام السبعينى لإنشائهما مؤسستهما العريقة – الاحتفال بمرور 70 عاما على صدور صحيفة الأخبار، التى كانت فاتحة، وإشارة إلى التطور المهنى فى مصر عامة، والصحافة المصرية خاصة، فى تلك الفترة الحساسة من التاريخ المصرى، بل السياسة، وصناعة الصحافة الورقية فى مصر، فضمت النخب الصحفية الكبيرة (أولاد أمين، والتابعى، والحمامصى وهيكل)، تقريبا كل الكبار فى ذلك الوقت، كما تضافرت فى إصدارها أهم العقول المهنية، والصحفية التى مرت فى تاريخ هذه الصحافة المصرية العريقة، والمبهرة، التى تربت عليها الأجيال، والعقول المتتابعة، وتعطى لنا المعانى، والإشارات إلى درجة تقدم، ونمو المجتمع، والمؤسسات فى مصر.
كانت الأخبار تطورا، وعلامة بارزة فى عام صدورها، حيث أهمية الخبر، والمعلومة للناس، والمتابعين للشأن العام، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وذلك موضوع طويل آخر، وهو ليس موضوعنا اليوم، لكن الجائزة، التى انطلقت بعد رحيل مؤسس الأخبار (مصطفى أمين)، اختارت هذا العام شخصية لها وزنها الكبير، والمميز للعمل الصحفى، والفكرى، خاصة صفحات الرأى، (الأستاذ جميل مطر)، باعتباره كاتبا عاما، أو رمزا للكتاب عموما، وقد وجدت أن هذا الاختيار يستحق منا التقدير، والإشادة، سعيا لاستمراريته فى إنعاش الحياة الصحفية، والفكرية فى مصر، فقد ظللنا متابعين سنوات عديدة الأستاذ جميل مطر وهو يُهدى أفكاره، وموضوعاته العميقة، ومقالاته التى تحمل رؤية عصرية، وتحمل،كذلك، رسالتنا لمعظم الصحف، والدوريات العربية (قدرة الكاتب على التعبير الفذ، والمتكامل، عن الوطن، بل عن الأمة كلها فى كل مراحل تطورها)، حيث لا يترك ظاهرة سياسية، أو اجتماعية، محلية، أو إقليمية، أو عالمية، إلا ويسلط الضوء عليها، وتحمل فكرا مميزا، فقد مزج بين خبراته الدبلوماسية العالمية والصحفية، التى بدأها فى الخارجية المصرية فى الستينيات، ثم أصبح سفيرا لمصر، ثم انتقل إلى الجامعة العربية ما بين عامى ١٩٧1و١٩٧5، ثم انتقل، مع نخبة من كبار الباحثين، وعلماء السياسة إلى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بـالأهرام، ثم انضمامه إلى جريدة الشروق عند تأسيسها عام ٢٠٠٨ ، فقدم، خلال مشواره الصحفى، أفضل صفحات الرأى فى الصحف العربية، وكانت مقالاته منتقاة، ومعبرة عن حالة التفكير الصحفى فى مصر إلى حد كبير، وظل معظم المتابعين لحالتنا السياسية، والصحفية يحرصون على قراءة صفحاته فى الشروق، حيث كانت بزوغا من عالم الصحافة، وكانت مؤثرة إلى حد كبير لدى من يتابعون، ويعرفون، ويقدرون قيمة الكلمة المكتوبة فى عالمنا، وتأثيرها.
كان اختياره شخصية العام إشارة تقدير مستحقة لصاحبها، وإعلاء لقيمة الجوائز الصحفية أنها أصبحت تتجه صوب البحث، والتنقيب، لتكون اختياراتها تتويجا، واعترافا لحالة مهنية تحتاج إلى تضافر الجميع، لتكون تعبيرا عن الحقيقة، وإشارة إلى كيفية النهوض بمهنة الكتابة الصحفية فى المرحلة المقبلة، ونحن نقف باحترام أمام الفكر الذى نشره جميل مطر حول الفكرة القومية، ولكى تنتشر عربيا يجب أن تعيد مصر بثها، لعدة أسباب، يفندها هو، فمصر هى الأكبر حجما، والأقوى إعلاميا، وسياسيا، وأنها حين تنشط يصبح العالم العربى أشد قدرة على إيصال وإسماع صوته، والتأثير فى مسار الأحداث العالمية، والإقليمية، كما حمل الأستاذ مطر كيفية إعادة بعث النظام الإقليمى العربى المرتبط بعقيدة العروبة، كما يعتبر من أكثر الكتاب الذين اهتموا بقضايا الإصلاح، والتحول الديمقراطى، ليس فى مصر وحدها، ولكن فى كل الأقطار العربية، وكان معنا بفكره المتطور، والمواكب للأحداث العالمية، لمساعدة السياسيين العرب فى دراسة، وتشخيص الظاهرة الدينية المعروفة بـالإسلام السياسى، ومتابعة تغيير سلوكيات، وسياسات الدولة الكبرى (أمريكا)، وانسحابها بإرادتها، ولا تحاول، خلال انسحابها منع دول أخرى منافسة من تجربة حظها فى الصعود إلى موقع القمة لتشاركها فى القيادة، وتشخيص خروج المنطقة العربية من الهيمنة الأمريكية، بعد عقود من التبعية الكاملة، وهو يتابع المفاجأة فى فراغ الهيمنة الذى لم يعهده من قبل، والمفاجأة أن أمريكا تتخفف من أطلسيتها، وتتجمل آسيويا، وتغض الطرف عن الشرق الأوسط، وهو ينتقل فى التحليل، والمتابعة من المستوى الأعلى إلى المستوى الأقل، يضع لنا أجندة من خلالها نفهم الظواهر، والمتغيرات، وأى ترتيبات، ومستوى أجدى من غيره، ليكون محل اهتمامنا بالمتغيرات، ويضعنا، بفكره الخلاق، والمتطور، والمعرفى المتزايد، أمام الظواهر، والسلبيات، التى تكتنف المسار العربى، وعندما يدرس الربيع العربى، وتأثيره، لا يتجاهل ما أصاب عقيدة النظم السياسية، وتأثير حركة الجماهير، ورغبتها، ويضع الحقائق متكاملة أمام قارئه، ولا تستطيع أن تلحظه، ولكن يجب أن تدرسه فقط.
نحن أمام كاتب يحمل فكرا ناضجا، يتناسب مع أحداث ما فى العصر من علوم السياسة، ومن خبرة تراكمية تؤدى بنا إلى مواجهة صريحة مع مستقبل المنطقة العربية، والإقليم، فى ظل صراعات لم تنتهِ، وظروف عالمية تحمل فى طياتها حروبا، وانهيارات قادمة.