النموذج الديمقراطي…

لا أريد أن أقع أو يقع الآخرون في خطأ ما يطرح خارجيا, حول الدولة النموذج الديمقراطي, التي تصدر نموذجها إلي الآخرين, فهذه دعاية خبيثة, يريدون بها الوقيعة بين الأشقاء, خاصة في المنطقة العربية لندخل معا في سباق لا معني له.
وتلك هي آخر الشعارات التي وصلتنا حديثا, بعد الضجيج الكبير الذي صاحب الانتخابات العراقية, والفلسطينية تحت الاحتلال بذريعة أنهما نموذجان للمنطقة العربية التي تعيش في أغلال الديكتاتورية والمخاوف, ولم ينسوا أيضا الانتخابات اللبنانية والحرية التي تسود لبنان بعد رحيل الاحتلال السوري وتنفس اللبنانيين نسيم الحريات.
ولا مانع من الإشادة بالتطورات الديمقراطية في مصر, وهناك دائما نماذج أخري يغرينا بها الباحثون الأمريكيون والغربيون في البحرين والأردن والمغرب.
تذكرت كل ذلك في حوار مباشر علي الهواء في إحدي الفضائيات, وكان المتحاوران معي, هما باحثا سياسيا, في إحدي المؤسسات الأمريكية, وأحد المسئولين العراقيين, كان يتكلم من بروكسل, حيث المؤتمر الذي عقد في حضور80 دولة ومؤسسة دولية, وهو مؤتمر أظهر أن العراق يحتاج إلي مساعدة المجتمع الدولي كله, وليس أمريكا وحدها, في وصوله إلي الحكم الرشيد, وتبني أجندة الإصلاح, والأهم الخروج من عباءة الاحتلال الذي لا يهين العراق وحده, ولكنه يهين العرب جميعا.
ووجدت رفيقي في الحوار يتبنيان دعايات غريبة, ويتكلمان بلغة لا يفهمها أحد, فالأمريكي يقول إن الأوروبيين لا يملكون ما يقدمونه إلي العراق, وإن العرب يخشون من النموذج الديمقراطي والحريات الواسعة, التي سوف تخرج من العراق, فتؤثر وتشع في كل المنطقة, ويظهر نورها علي العالمين, لتخرجهم من القرون الوسطي.
أما المسئول العراقي الكبير فيتكلم عن العرب والأوروبيين وكأنهم لا يفهمون مايحدث في العراق, وأن الحياة هناك وردية وجميلة, وكأننا لا نري ولا نسمع عن حالة الموت الجماعي التي تحدث في العراق الآن, فهو يقول إننا نريدكم معنا, فلا تخشوا الحرية والانتخابات والديمقراطية التي تشع في العراق.
وجدت نفسي أطلب منه الرحمة, والحديث بواقعية حتي يمكن أن نفهمه, فنحن نري ويري معنا العالم, علي كل الشاشات والمحطات ويسمع الأخبار القادمة من العراق, وجميعها تؤكد أن الحياة اليومية أصبحت صعبة, وتتخللها التفجيرات وأعمال الخطف وارتفاع معدل الجريمة, وغياب القانون, وتدني أو انعدام الخدمات الأساسية للمواطنين, والأخطر أن البطالة أصبحت حالة عامة داخل المجتمع, وأرقامها تتفاقم حتي وصلت إلي60%, ضاربة الرقم القياسي الذي لم يعرفه العالم إلا في أثناء وبعد الكساد العظيم الذي شمل أمريكا والعالم بعد الحرب العالمية الأولي وما تلاها, والذي لم يتجاوز40% حينذاك, وسط هذا وذلك لم أفهم الاستعلاء الأمريكي عن قدرتهم وانتصارهم في العراق والنموذج المنتظر!
وقلت لهم بكل تواضع إننا بل وكل العالم, نريد مساعدة أمريكا في العراق, إنقاذا لهما معا, لأمريكا والعراق الشقيق, فالكارثة كبيرة, وأن النموذج الذي يتكلمان عنه لا يوجد إلا في عقول محدودة, صاغت ونفذت جريمة الحرب بلا وعي أو تفكير, وما حدث علي الأرض, واقعيا, جعل فكرة النموذج والتحول والتغيير الديمقراطي شيئا من الأساطير, بل من الدعايات الخبيثة, التي لا تصمد طويلا أمام حقائق وأرقام ومخاوف وكوارث تنبعث يوميا من العراق تحت الاحتلال.
فبادرني المذيع وما الثمن؟ قلت له لا نريد ثمنا إلا إنقاذ العالم والمنطقة من أخطار المحافظين الأمريكيين, الذين تصوروا أن الحرب هي الحل, وخلفوا وراءهم دولة أصبحت ركاما وفسادا واختلاسات, وإذا أضفنا إلي ذلك غياب الأمن والغذاء, بعد توقف البطاقات التي كانت تصرف للمواطنين هناك, لقلنا إننا أمام كارثة إنسانية بغيضة, لا نريدها لشقيقنا ولا نتمني لمنطقتنا أن تزرع في العراق مصنعا كبيرا للتطرف والإرهاب فالفشل الأمريكي سيولد كل المخاوف, فعندما يكون العنف هو سيد الموقف, ويسعون من خلاله إلي توظيف الصعوبات الخطيرة, واستغلال الغضب والتذمر الشعبيين لتأجيج الكراهية والعنف, وقد تجلي صنيعهم في كل هذه البشاعة في شوارع العراق كل يوم, ماذا ستنتظر منطقتنا كلها؟
ونحن نعرف أننا نعيش في منطقة صعبة, لم نتخلص من كارثة ومأساة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال منذ50 عاما, ولم نعالج ماضي العراق المؤلم, والذي مازال يستحث النقمة, فهل نترك الحاضر والمستقبل بلا علاج, لنعصف بالأجيال القادمة؟!
نحن مع العالم نمد أيدينا إلي الأشقاء العراقيين لنخوض معهم المرحلة الانتقالية الشاقة والطويلة والمؤلمة ونقول لهم قلوبنا معكم, لتكونوا دولة مستقرة وآمنة في قلب الشرق الأوسط, ولكننا يجب أن نقول لهم أيضا لا تستوردوا شعارات وهمية, فنحن نتخوف من الدولة النموذج كما أننا لا يمكن أن نصدق أن انتخاباتكم كانت لا تشوبها شائبة, ولم تحدث في عالمنا العربي من قبل, فليس هناك عراقي عرف من انتخبه, رغم احترامنا للانتخابات, وتشكيل الحكومة.
ومع ذلك فهذا الحوار جعلني أدرك أهمية أن نتواضع, ونعرف أن الديمقراطية الحقيقية ليست انتخابات فقط, رغم أهميتها, ولكنها تعني حكومة وأداء حكوميا منتظما في كل المجالات, وعلي رأسها الاقتصاد والصحة والتعليم وبناء الإنسان وتوفير الحياة الكريمة والعمل والأمن ويسبقها الاستقرار لكل مواطن.
وعلي نخبتنا ومثقفينا وسياسيينا أن يساندوا التطورات والإصلاحات السياسية والاقتصادية في مصر, فربما نقدم نحن نموذجا إلي المنطقة, بعيدا عن المخاوف التي راحت تطل برأسها من كل ما يجري حولنا, والتي لا نريدها لأنفسنا أو لأشقائنا.