مقالات الأهرام اليومى

مصر والإصلاحات‏..‏ لمن تدق الأجراس‏!‏

اجتازت مصر الأصعب في فترة وجيزة وبقي الصعب‏,‏ فقد استشعر شارعها السياسي بالحيوية وخرج من كمونه‏,‏ واستيقظ محيطها الإقليمي علي ما يجري فيها‏,‏ رغم أزماته العميقة‏,‏ واستقبل العالم الخارجي سياستنا الجديدة‏,‏ لا أقول بالترحيب‏,‏ ولكن بالاحترام المشوب بالحذر‏,‏ وكلها مؤشرات تؤدي إلي ما بعدها انتظارا لخطواتنا المقبلة وتفاعلنا معها‏.‏

ولأن السياسة مثل الاقتصاد لا تحركها السياسات الإيجابية وحدها‏,‏ ولكن عناصرها الكيميائية التي تحتاج إلي ما هو أكثر من ذلك‏,‏ مثل رؤية المنظمين وطبيعتهم وجديتهم وسرعتهم في فهم المتغيرات‏,‏ ودفعها نحو المسارات الأصح‏.‏

كانت النقطة المحورية التي أشعلت التغيير والإصلاح‏,‏ هي دعوة الرئيس مبارك إلي تعديل أكثر مواد دستورنا جوهرية‏,‏ المادة‏76,‏ الخاصة بانتخاب الرئيس‏,‏ ولأننا مقبلون علي انتخابات رئاسية في هذا العام‏,‏ فقد استحوذ هذا التغيير علي كامل الاهتمام‏.‏

وفي حين أن العقل السياسي يجب أن يستنبط أنه قبل هذا القرار الإستراتيجي‏,‏ كانت هناك سياسات وتحركات مختلفة‏,‏ تشير إلي أننا مقبلون علي هذا التطور الحيوي‏,‏ ولعل أهم هذه التحركات جاء في اختيار الحكومة المصرية ونوعية شخصياتها‏,‏ خاصة في المجال الاقتصادي‏,‏ فقد قدمت سياسات مبتكرة‏,‏ اتسمت بالحسم والسرعة والفهم الدقيق لواقعنا وللعالم‏,‏ وهي لغة افتقدها الاقتصاد المصري طويلا‏,‏ منذ إصلاحات د‏.‏ عاطف صدقي في التسعينيات‏,‏ ولكننا في الأشهر التسعة الأخيرة‏,‏ عدنا إلي حيث كنا أو حيث نريد‏.‏

وكشفت ذلك المباحثات الاقتصادية والسياسية التي أجراها د‏.‏ أحمد نظيف في رحلته الأخيرة‏,‏ في أول زيارة لرئيس وزراء مصري إلي واشنطن‏,‏ فقد وضع أمام المستثمرين والحكومات الأجنبية‏,‏ وفي مقدمتها الشريك القوي أمريكا‏,‏ سياسات منفذة واقعيا‏,‏ سارت فيها الحكومة بالفعل‏,‏ وطبقتها في مجالات حيوية عديدة‏,‏ بنكية واستثمارية وضرائبية وجمركية‏,‏ فهو لم يقدم خطابات نوايا‏,‏ بل حقائق علي الأرض‏,‏ جعلت علاقات مصر بأمريكا تعود إلي الطريق الصحيح‏,‏ وبالعودة إلي أوضاعنا السياسية‏,‏ فمصر مقبلة علي انتخابات رئاسية تنافسية لأول مرة في تاريخنا الحديث‏,‏ وتشير التجهيزات السياسية‏,‏ ليس إلي قوتها فقط‏,‏ ولكن إلي معناها ومغزاها لاستقرار الشرعية في بلادنا‏,‏ من خلال انتخابات برلمانية في ظل قوانين متجددة وشفافة ومساواة بين الجميع‏.‏

ورغم الفترة الوجيزة التي مرت علي التعديل الإستراتيجي‏,‏ فإن الحركة تسير في خطوات متوازنة‏,‏ ويرجع ذلك إلي وجود حزب أغلبية قوي لديه البوصلة المتجددة‏,‏ وقد تطورت الآليات داخله‏,‏ ولم يعد القرار في تنظيماته يتخذ فرديا أو عشوائيا‏,‏ ولكن من قبل لجان متخصصة تجري فيها عمليات فرز ومناقشة لأوراق عمل وسياسات‏,‏ وتتداول داخلها المعلومات بطريقة منظمة‏,‏ آخذة في اعتبارها أساليب الأحزاب العصرية‏,‏ وقد امتزجت الوجوه المعبرة عنه‏,‏ ما بين التقليدية‏,‏ التي عرفناها طويلا‏,‏ والسياسيين الجدد الذين يتكلمون لغة مختلفة‏,‏ وتسود بين أجياله روح الفريق‏,‏ وارتفع فيه إلي حد كبير الانتماء والالتزام الحزبيين‏,‏ واختفت الانشقاقات التي كانت سمة الحزب والأحزاب المصرية‏,‏ وأصبح حزبا في طريقه إلي امتلاك القوة السياسية الفعلية‏,‏ ولديه إرادة التغيير في الشارع السياسي‏,‏ وبات يكسب أرضا جديدة‏,‏ ويضع رؤية مستقبلية متجددة‏,‏ يستطيع بها أن يضبط بوصلة الحياة السياسية‏,‏ ويجعل أخطاء الآخرين أو القوي الصغيرة في حجمها الطبيعي‏,‏ دون تهويل أو تهوين‏,‏ وهو مقبل علي الاستفتاء بعد ثلاثة أيام علي المادة‏76‏ وما يستتبعها من فتح باب الترشيح للرئاسة‏.‏

وتدق الأجراس بالتحية لصانع كل هذه التطورات بداية من إصلاح الحزب الوطني‏,‏ وحكومة الإصلاحات الاقتصادية وفكرة تعديل المادة‏76(‏ ثالوث التغيير‏)‏ الذي وضع مصر في مكانة متميزة قادرة علي التطلع إلي مستقبل أفضل‏.‏

فإذا كانت مجموعة محدودة من أحزابنا المعارضة قد تسلطت عليها فكرة السلبية‏,‏ ودعوة الناخبين لكي يجلسوا في بيوتهم يوم الاستفتاء‏,‏ عاكسين بهذا السلوك حالة القلق التي تعيشها الأحزاب من المتغير الجديد فإن تأثيرها الهامشي في الشارع السياسي‏,‏ لا يجعلنا نقف عندها كثيرا‏,‏ فالمقاطعة ليست رأيا بل هروبا‏,‏ ونكون منصفين عندما نعتبر التكهنات التي تشير إلي اجتماع تلك الأحزاب القديمة علي اختيار مرشحها السياسي المخضرم خالد محيي الدين للانتخابات الرئاسية المقبلة‏,‏ عودة لتصحيح الأخطاء ومشاركة إيجابية في الأحداث والتطورات الجارية‏.‏

ونري أخيرا أن الاقتصاد والسياسة لا تغيرهما الحكومات أو الأحزاب‏,‏ ولكن تدق الأجراس للشعوب وحدها فهي القادرة علي التغيير‏,‏ فلن يتحرك الناس إلا إذا استشعروا الجدية والمساواة والعدل‏,‏ بأن هذه التحركات والسياسات تأتي لصالحهم حاليا ومستقبلا بشفافية كاملة‏,‏ وأنها تغييرات حقيقية وليست تجميلية وتستهدف روح الوطن‏,‏ وليس لصالح مجموعات محددة أو لفترة محدودة‏,‏ بل هي حالة مستمرة‏,‏ وأن نهايتها مفتوحة‏,‏ وتستوعب الجميع‏,‏ ولذلك يجب الحرص علي الرموز‏,‏ وعدم الانزلاق وراء المخاوف‏.‏

علي أن يتحلي الجميع بقيم التغيير ومعاييره الدقيقة‏,‏ ولأن الإصلاح في الاقتصاد واضح ومحدد ومقنن‏,‏ ولأن قياسه رقميا‏,‏ فهو يظهر علي أوضاع الأسر ومستويات معيشتهم ومعدلات التنمية البشرية بكل مشتملاتها الصحية والتعليمية والإنسانية‏,‏ أما السياسة فأصعب وأدق لأنها في حركة الناس واتجاهاتهم من الفوضي إلي التنظيم‏,‏ ومن غياب المعايير إلي دقتها‏,‏ ومن عالم اللا قيم إلي عالم القيم بعد طول غياب‏.‏

والإصلاحان متربطان ولا غني لأحدهما عن الآخر‏,‏ ولن يحدث التقدم في أحدهما بعيدا عن الثاني‏,‏ وبهما معا‏,‏ تبني الأمم عزها‏,‏ وتعيد أوضاعها الاجتماعية المتماسكة ومكانتها الثقافية‏,‏ ودورها الإقليمي‏,‏ والأهم أنها تحمي نفسها من التدخلات الخارجية‏,‏ وتعلي مكانة الانتماء وقدرة الوطن ومعاني المواطنة العظيمة داخل كل فرد فينا‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى