مقالات الأهرام اليومى

من مصر الجديدة إلي بولاق وسط القاهرة

تعيش القاهرة المزدحمة والمتنافرة في نفس الوقت‏,‏ هزة عنوانها الاحتفال العصري بحي مصر الجديدة‏,‏ بعد مرور‏100‏ عام علي إنشائه‏,‏ وهو مشهد سوف تختزنه أجيالنا في عقولها‏,‏ لأنه احتفال مستحق يليق بمكان جميل‏,‏ ولايزال جماله واضحا لم يختف بعد‏.‏

الاحتفال لم يقتصر‏,‏ كما تعودنا‏,‏ علي الذكري والبوسترات والاجتماعات والحفلات‏,‏ ولكنه كان عمليا وحيا‏,‏ فتجددت الضاحية بقصورها الشامخة‏,‏ وعادت الروح إلي حدائقها‏,‏ وظهرت الخضرة النادرة‏,‏ وتلامست الجوامع والكنائس مع القصور التاريخية والمدارس المميزة‏.‏

وعندما تسير في الشوارع لن تستطيع أن تبتعد بنظرك عن أنوار وحدائق قصر البارون إمبان‏,‏ مؤسس المدينة‏,‏ فقد عاد وأصبح موطنا للجمال الجدير به‏,‏ بعد أن كان موحشا ومهملا‏,‏ ولم تتجدد قصور الحي العريق فقط بل منازله ومحاله كذلك‏,‏ والأهم أن كل ذلك تم بمبادرات شعبية‏,‏ قام بها السكان أبناء الحي وجمعيتهم الأهلية‏,‏ فغني الناس في الكوربة وروكسي وفي ساحة البازيليك‏,‏ وعادت سينما نورماندي‏,‏ وجلس الناس علي المقاهي الشهيرة‏,‏ وهاهي هيلوبوليس تلبس زيا جديدا‏,‏ فشرفات البيوت زاهية‏,‏ وسقوف المنازل عادت ولم تخف أطباق الدشات القبيحة قرميدها بني اللون أو البواكي المبدعة التي ذكرتنا بأننا كنا جزءا من العالم المتقدم والمنظم يوما ما‏.‏

صورة هذا الاحتفال بمشهد التغيير‏,‏ أحيت في نفوسنا آمال العودة إلي ذلك العصر المتمدن‏,‏ ورغم أن أصوات كلاكسات وضجيج السيارات ودخانها المنبعث في كل مكان‏,‏ مع الميكروفونات وغياب التنظيم‏,‏ ذكرنا بالواقع الذي نعيشه‏,‏ فإن وميض اللحظة المبدعة كشف قدرتنا الكامنة علي التغيير والتطور‏.‏

مصر الجديدة‏,‏ ذلك الحي المتكامل الذي بني في الصحراء‏,‏ منذ قرن من الزمن لم يلهم أجيالنا المتعاقبة التي هاجرت من القري والمحافظات إلي المدينة بأن تذهب إلي الصحراء الامتداد الطبيعي للنمو‏,‏ بل تركوا هذا النموذج‏,‏ وتكدسوا في أحياء عشوائية وفوضوية في الهرم والمهندسين والسواح والقبة وشبرا الخيمة‏,‏ واعتدوا علي الأراضي الزراعية‏,‏ ولم يكتفوا بإهدار تلك الثروة الخضراء بتخريب الأراضي الثمينة وتجريفها فقط بل زرعوها بالمباني القبيحة‏.‏

ولكن يبدو أن العقل الفوضوي الذي ساد في العقود الخمسة الماضية‏,‏ لم يضع بصماته علي الأحياء الجديدة التي أنشأوها فقط‏,‏ بل اتجهوا إلي تخريب الأحياء الراقية‏,‏ وذات الطابع الجمالي الفائق والمنظم‏,‏ ومن لم يصدقنا فعليه بزيارة جاردن سيتي التي أصبحت عمليا باركنج سيتي والزمالك والمعادي‏,‏ وكلها أحياء تاريخية نريد أن نبعثها من جديد من ركام الفوضي‏,‏ وهو نفس ما يحدث في أحياء الطبقة الوسطي مثل حي المنيرة والمنيل وشوارع النيل وامتداداتها والمناطق المحيطة بها إلي وسط مدينة القاهرة‏.‏

إن احتفال مصر الجديدة حدث مهم علينا أن نشيد به‏,‏ ونضعه في مكانه الصحيح‏,‏ كنقطة إلهام للمستقبل وتغيير وجه القاهرة وتحديثها وتنظيمها وحمايتها‏,‏ وإعادة بنائها وتطويرها بأن يكون لكل حي طرازه وشخصيته التاريخية‏,‏ وأن يكون لشوارعها وبيوتها القديمة والجديدة أصحاب يحافظون علي صيانتها‏,‏ وبلديات قوية‏,‏ وقادرة علي جعل كل مواطن يحترم نفسه والآخرين‏,‏ لتكون لنا قاهرة ملهمة لكل محافظاتنا‏,‏ وعنوانا للنظام ولدولة القانون التي نتطلع إليها‏.‏

نريد قاهرة جديدة لها وسط مدينة عريق‏,‏ يليق بدولتنا الراهنة التي تتطور‏,‏ واحتفال مصر الجديدة إذا لم يلهمنا للمستقبل‏,‏ لنحميها بقانون ينظم حركة البناء فيها‏,‏ ولا يندفع نحو مبان كبيرة بلا خدمات مثل جارتها مدينة نصر‏,‏ فإننا لن نستطيع أن نحتفل بمرور‏125‏ عاما علي مصر الجديدة التي نعرفها الآن‏.‏

ومن هذه الرؤية فإننا ندعو كل المؤسسات لإنقاذ القاهرة من وسطها في منطقة بولاق‏,‏ وليكن بالعودة إلي إلهام مصر الجديدة‏,‏ وذلك بتكوين شركة لوسط المدينة يشارك فيها التليفزيون بكل كبريائه‏,‏ ووزارتا الإعلام والخارجية‏,‏ والمؤسسات الكبري التي أنشئت علي النيل والبنوك والمؤسسات الإعلامية‏,‏ ولنؤسس مثل مصر الجديدة جمعية أو شركة بولاق الوطنية‏,‏ وهو اقتراح سبق أن تقدمت به في هذا المكان لإعادة تخطيط هذه المنطقة لتكون نقطة جذب استثماري وسياحي‏,‏ باعتبارها منطقة ذات تاريخ وجمال لا يضاهي‏,‏ فعند إعادة بنائها بشوارع فسيحة‏,‏ ومقاه متسعة‏,‏ ومحلات معاصرة ومفتوحة للشركات والمؤسسات العالمية‏,‏ ومناطق للتنزه ومبان ذات شخصية موحدة ومتكاملة‏,‏ فإن كل ذلك سيجعلنا نستفيد من إمكانات تلك المنطقة المبهرة التي تطل علي النيل‏,‏ وبها خدمات وبنية أساسية كبري‏,‏ أهمها وأكثرها تكلفة مترو الأنفاق والكباري الحديثة‏.‏

فمنطقة بولاق التي تنتشر بها الآن العشش والمباني القديمة الآيلة للسقوط‏,‏ وتضم كل المناظر القبيحة التي تغطي وجهها المبدع‏,‏ إذا استمرت علي حالها الراهن بدون قانون أو شركة موحدة فستجعلنا نخسر كل أمل في عودة القاهرة التي في خاطرنا‏.‏

فتحركوا بقانون موحد يوافق عليه البرلمان‏,‏ ويشارك فيه أهالي المنطقة‏,‏ حتي نجعلها منطقة اقتصادية متكاملة لتكون نقطة حذب للأموال والحركة والاستثمار‏,‏ فبناء وسط لمدينة القاهرة من خلال بيت خبرة عالمي‏,‏ بتخطيط عمراني متكامل موحد لتلك المنطقة الحيوية سيعبر بالقاهرة إلي مرحلة متطورة‏,‏ وسيثبت للعالم‏,‏ أن العقل العشوائي والفوضوي الذي كنا فيه قد سقط وزال‏,‏ فهل هناك المنظم أو المنظمون القادرون علي هذا المشروع الحيوي الذي يفتح باب التغيير والأمل للقاهرة من قلبها‏,‏ فعندما ينبض القلب تتحرك الأطراف؟‏!‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى