التغريدة الديمقراطية.. والواقع

في السياسة مثل الاقتصاد, عندما تملك مقومات التحول أو بنيته الأساسية, فإن الصعوبات التي قد تواجهك ستكون محدودة, لكن الخطر دائما يكمن عندما يكون الطموح متجاوزا الواقع, حتي لو كان متناسبا مع رؤية نخب معينة, فالمخاطر تتزايد عندما تعطي هذه الجماعات لنفسها حق تمثيل المجموع.وإذا راجعنا تاريخنا القريب, فسنجد أن المرحلة الراهنة شبيهة بمرحلة الانتقال من الملكية إلي الجمهورية الأولي في الخمسينيات, فقد تجاوزت سرعة الذين قادوا الحركة حينذاك, حقائق السياسة علي الأرض, فوقعوا في رومانسية التفكير, و رأوا أنه يمكن أن يصبح الحلم بديلا عن الواقع, وعندما تتبني هذه الحالة فإنك لا تكسب واقعك, بل تخسر حلمك.
ونحن هنا لا نريد أن نبكي علي اللبن المسكوب, بل نطمح في البناء علي ما نحن فيه بالفعل, لإقامة مؤسسات حقيقية وليست افتراضية, تكون قادرة علي تمثيل الأغلبية, وضامنة لمشاركة الأقلية, وأقصد هنا التعبير السياسي, وليس الديني, فمصر مجتمع متجانس.
ولأننا من الجيل الذي عايش الهزيمة الحادة والقاسية عام1967, فنحن دائما نتسم بالحذر, ولأن ما صنعناه في سنوات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من انتصارات حقيقية, وصعبة وجاءت بشق الأنفس, فنحن نعرف معناها ونثمنها غاليا, حتي لو أنها أصبحت لا ترضي الأجيال الحالية, فإن واجبنا أن نقول لهم بكل صراحة, عليكم أن تحافظوا علي ما تحت أيديكم, وتبنوا عليه ما يرضيكم, ولا تسمعوا لمن يطالبون بهدمه, فالأنظمة لا تهدم, بل يتم إصلاحها, بما يناسب الاحتياجات المتجددة, ويجب ألا نقع فريسة لفئات تعيش هنا أو هناك, لا تستطيع قراءة واقعنا وحياتنا بدقة, كما نعرفها نحن, وهنا لا نريد أن نتهم أحدا معينا, بل نريد أن نتبني أجندتنا الخاصة, وليس كما يخططها الآخرون.
فاللحظة الراهنة في مصر دقيقة وحساسة, وتحتاج إلي العقلاء والحكماء, قدر احتياجها إلي سياسيين يحكمون العقل, ويبتعدون عن المصالح الآنية, فهؤلاء يكسبون مرتين, الأولي عندما يحجمون الرغبة في شهوة المكسب السريع علي حساب الحقيقة, والثانية عندما يصنعون واقعا يتطور باستمرار, فلا يتجمد أو يعود إلي الوراء.
فالمجتمع الآن يتعرض إلي ضغوط داخلية وخارجية, ولأننا نعيش في عالم واحد, تتداخل فيه المصالح, فقد أصبح الشأن المحلي في شقه السياسي حقا مشاعا للآخرين ليتدخلوا فيه, وهي حالة في حد ذاتها تشكل حرجا وعبئا إضافيا.
ولذلك نري أن وضوح الرؤية ودقتها هما المخرج من هذا المأزق, وأعتقد أن أهم خطوة يجب أن نتخذها هي جدولة النمو السياسي والاتفاق عليه, وألا يصل الخلاف إلي الاختلاف, علي أن يتم ربطه بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية, علي ألا يسبق أحدهما الآخر فنضر بالمسارين معا.
وحتي لا نبتعد كثيرا, فإنني أقول إن ما تحت أيدينا الآن يسمح بالانتقال إلي مرحلة أكثر تقدما, وإذا كانت الدولة القطرية العربية تتمزق نتيجة ارتكابها أخطاء داخلية كثيرة في السنوات الماضية, وأوقعت البعض تحت الوصاية والاحتلال, وجعلت الآخرين معرضين للانقسام أو التدخل الخارجي, فإننا في مصر ندخل المرحلة الجديدة متحدين ومتفقين علي السياسات الكبري.
لأن ما جري في المرحلة الماضية راعي مصالح الجميع, الفئوية والثقافية, وشكل تيارا لدولة حديثة, خاصة في المجالات السياسية الدقيقة, فقد فصلنا بين الدين والدولة, وهو عنصر حيوي في الدولة المعاصرة, ولكننا نري الآن اندفاعا من بعض القوي المتنفذة التي تريد أن تستفيد من لحظة الانتقال فراحت تمارس ضغوطا علي سياسات التغيير, في محاولة للخلط بينهما, مستغلة دعما خارجيا لا يعرف حقائق حياتنا الاجتماعية والسياسية, وهي خطوة متطرفة علي الجانب الآخر.
وإذا كان التطور السياسي الحديث في بلدنا قد أدي إلي جعل القيادة السياسية تنتقل إلي الجمهورية التنافسية بتعديل المادة76 من الدستور, وإعطاء إشارات بتغيير الدستور الحالي, يتناسب مع المتغيرات العالمية الحديثة, فإن التيارات الدينية المتنفذة عليها هي الأخري أن تقدم عرضا سخيا مماثلا بالاعتراف بالمعايير الحديثة للدولة المعاصرة التي تأخذ من الأديان قيمها, وتحترم التطور ومعاييره الحاكمة, وتسمح للمجتمع بالحريات الكاملة, فإسقاط تدخل الدولة بالحرية, يلزم إسقاط تحكمات المجتمع المانعة لها, فيكون التطور متوازنا وكاملا ومفتوحا.
فمصر مجتمع متقدم, وسياساته واقعية, وقد نجحت في السنوات الماضية في مكافحة التطرف والقيم البدوية التي قدمت شكلا قديما ومتطرفا للإسلام, لا يفهمه العقل المصري المدرك لمعني العلمانية السياسية, والتسامح وقبول الآخر, والاندماج في المجتمع العالمي مع التمسك بقيم الدين, وهذا المفهوم الإستراتيجي يحتاج إلي تفاعل مجتمعي أكثر عمقا.
فمازالت بعض البيئات السياسية تغازل التطرف, ولا تدرك مدي ما وصلت إليه الأوضاع الإقليمية الخاصة بملف السلام الإقليمي والتطور الديمقراطي, وهما جناحان لطائر واحد, فتغذية السلام تصب لصالح النظام الديمقراطي المرتقب في مصر.
كل ذلك يعني أن الأغلبية العاقلة والصامتة سوف تتحرك بوعي كامن ومتراكم وراء القيادة التي تتحرك بدورها لتنشيط قدرة مصر التنظيمية والاقتصادية والسياسية بخيط رفيع, محوره الإصلاح, وبناء مؤسسات قادرة علي النمو, وعلامات ذلك الإصلاح هو الانتقال إلي دولة الاقتصاد الحر, وتعظيم دولة المؤسسات, والفصل بين السلطات بإصلاح سياسي يعلي من شأن دولة القانون, بروح عصرية منظمة, فنحن وصلنا إلي عصر الحكمة السياسية, عبر معاناة, يدرك أصحابها ثمن هذا التحول, وسوف ندفعه, لأننا نعرف قيمة المستقبل وما ينتظرنا فيه.