مصر يجب أن تنصف نفسها الآن

يجب ألا ننتظر من أمريكا أو المجتمع الدولي أن ينصف سياسات مصر العالمية والإقليمية والمحلية, كما يجب ألا نطلب من محيطنا العربي أن يعترف بأنه أخطأ التقدير والحساب, ولم يعرف قدرات مصر, ومعاني ومغزي السياسات التي سارت فيها خلال العقود الثلاثة الماضية, ورؤيتها لمستقبل بلادها وعلاقاتها بالعالم والمنطقة.
ولكن يجب أن نطلب ذلك من المصريين أنفسهم, لكي ينصفوا أنفسهم بأنفسهم, فهم الأحق والأولي, بأن يبرئوا بلادهم, وسياستها الثاقبة من الأخطاء التي ارتكبت.
لأن إنصافنا لأنفسنا وسياساتنا, سوف يعفينا من أن نستورد أخطاء الآخرين, وبالتالي لا نحمل أنفسنا أوزار ما يحدث حولنا الآن.
وفي الوقت نفسه فإن علي النخب والعقول المفكرة, ــ وهم يشخصون ويدرسون نتائج ما نحن فيه ــ عليهم معرفة كيف يمكن الخروج من المأزق والأوضاع المضطربة, ولكن كيف كانت ستحقق مصر ذلك, وهي تعيش محيطا إقليميا يضخ أفكارا للصراع وللتعصب, ولم يكن في الإمكان تلافي آثارها السلبية علي واقعنا المحلي؟!
فمع بداية الثمانينيات, وحينما انطلقت رصاصات الغدر واغتالت الرئيس الراحل السادات, لم تكن تقصده في ذاته, وإنما كانت تستهدف السياسات العاقلة التي دشنتها حقبة السبعينيات, سياسيا واقتصاديا, وكانت فاتحة تلك الرصاصات حرب الإرهاب التي خاضتها مصر, وانتصرت فيها.
ومن هنا فإن مصر لا تتحمل أي مسئولية عن التداعيات, التي تصاحب الآن الحرب العالمية علي الإرهاب, وعلي الشركاء الإقليميين أن يتذكروا أننا حذرناهم من ويلاته التي كنا نتحملها وحدنا, وندفع ثمنها من مواردنا المحدودة, رغم أن شرايين الدعم كانت جميعا تأتي من الخارج, في وقت كان فيه المجتمع الدولي وزعماؤه الأمريكيون والبريطانيون يحتضنون رموزه في بلادهم, معتبرين أن معركتنا مع الإرهاب هي معركة داخلية, حتي اكتشف العالم متأخرا مخاطره عليه بعد أحداث11 سبتمبر2001 أمريكيا.
وإذا نظرنا بعمق, فسوف نجد أن كل السياسات المعاصرة تبنتها مصر وسبقت بها الجميع, ولم تتراجع عنها, فالانتقال من الاقتصاد الموجه مثلا إلي الحر, بدأ وصار مصريا طوال العقدين الماضيين, والذين يلوموننا الآن في التأخير, هم شركاء في ذلك, لأننا تخوفنا, ولنا كل الحق, من الآثار السلبية للتحول وتداعياته علي الفئات الأضعف داخل المجتمع, خاصة الفقراء, وكانت صورة آلامهم ومعاناتهم في كل الدول التي سارت في نفس الطريق, كالاتحاد السوفيتي, وأوروبا الشرقية, ماثلة أمامنا.
صحيح أن مصر تأخرت جزئيا عن الإصلاح الاقتصادي, ولكنها لم تذبح الأجيال الحالية لصالح أجيال المستقبل, أما عن سياسات السلام والحد من الصراع الإقليمي بين العرب والإسرائيليين فلا ينازع مصر أحد, عالميا أو إقليميا, في أنها صاحبة هذه السياسة التي لم تتوقف, رغم حروب الإرهاب وأهدافه, وصعوبات وآلام وجروح قطار السلام الذي يسير في عالم من المتطرفين علي كل الجبهات, ولأن شريكنا الرئيسي إسرائيل لم يستكمل حلقاته مع باقي الأطراف, بل ذبح الفلسطينيين, وكأن القدر أراد أن يحمل للقيادة المصرية والشعب المصري مسئوليات وأعباء إضافية جسيمة, فقد تحملنا تداعيات دفع عملية السلام في المنطقة العربية, حتي قبلت كلها بحل الصراع سلميا, كما تحملنا تغيير الطرف الآخر نفسه, ووصلنا إلي معاقل التطرف داخل إسرائيل التي عجزت القوي الكبري نفسها( أمريكا) عن لجمه.
كل ذلك ينسي الآن, فهل كان في الإمكان التوقف عن محاربة الإرهاب ومعارك التحولات الاقتصادية والسياسية وصناعة السلام التي هي أولويات أي حركة إلي الإصلاح والديمقراطية؟ ومع ذلك فالأخ الأكبر إقليميا, كان هو وحده في معركة تصحيح الأفكار والرؤي, وهو وحده أيضا يجب ألا يئن أو يطلب مساعدة الآخرين.
فهناك قوي محلية وإقليمية تريد أن تجذبنا إلي الخلف, وتنسينا أننا أصحاب السياسات القوية والشجاعة التي غيرت العالم, وصنعت تاريخا جديدا في منطقتنا, وهي قوي تريدنا أن نكون شركاءها في هزيمة رؤيتها حول مراكز الصراع الإقليمي من أفغانستان وفلسطين والعراق, إلي حرب الإرهاب ومواجهة المشاكل السياسية الداخلية والإقليمية, وهناك قوي عالمية محافظة يمينية متطرفة تريد أن تنسينا أننا أصحاب مبادرات التاريخ وصناعة العالم الجديد, وتسلبنا إياها وتنسبها إليها وتطالبنا بالمزيد.
ولكن علينا أن نتحمل وندخل المرحلة الجديدة منصفين لأنفسنا غير عابئين بما يقوله الطرفان عنا, إقليميا وعالميا, فمازلنا نملك مفتاح رؤية المستقبل في بلادنا ومنطقتنا والعالم, ومازلنا أيضا قادرين علي أن نفاجيء الجميع بما يحدث في مصر.
فانصفوا أنفسكم أيها المصريون, وأنتم تذهبون إلي صناديق الاقتراع في عامكم الصعب الحاسم2005, حتي نختار رئيسا ونوابا للبرلمان بلا غضب, وقادة ليسوا للماضي, بل للمستقبل, فقد وازنتم بين الصعب والأصعب, واخترتم الممكن, وكان من الطبيعي ألا تحققوا, كل ما تأملون فيه, وتطمحون إليه, وأنتم تستحقونه, ولكن أدركوا أنكم في لحظة أفضل, فما واجهتموه كان الأصعب, وما صنعتموه كان الأصعب أيضا, وحتي نستطيع أن نسير نحو المستقبل, يجب أن ندرك حكمة القيادة, فقد ألمت بصورة الماضي, واستوعبت صعوبات الحاضر, واستشرفت طبائع المستقبل المرتقب, وبدأت في تغيير مادة جوهرية في الدستور للانتقال إلي جمهورية بالانتخاب الشعبي.
وعلي السياسة الجديدة, التي نعكف علي صياغتها الآن, أن تكون سريعة وحاسمة, وتضع كل المصريين أمام مسئولياتهم بلا خوف أو تدليل للأفراد والمؤسسات والجماعات, وتلك السياسة سيحكمها في التنفيذ سرعة التحرك وعالمية التوجه نحو الهدف.