يحدث في مصر الآن

منذ أن أطلق الرئيس حسني مبارك شرارة تغيير جوهري بتعديل المادة76 من الدستور الخاصة بأسلوب اختيار رئيس الجمهورية, والتحول من الاستفتاء إلي إجراء الانتخاب بين أكثر من مرشح, منذ تلك اللحظة راحت الحيوية تنتاب كل المؤسسات, الدستورية, كمجلسي الشعب والشوري وبيوت السياسة كالأحزاب والجمعيات والنقابات المهنية, والقوي المهتمة بالشأن العام, وهي هنا تضم المجتمع المصري ككل.
فالتغيير الذي جري ليس شكليا علي الإطلاق, بل جذري, ويدخل في صميم تكوين السلطة في البلاد, ولأن منصب الرئيس, تاريخيا, هو محور تدور في فلكه السلطة التنفيذية, لطبيعة وهيبة المنصب الرفيع, فإن الحركة السياسية مازالت في حالة انعدام وزن لعدم قدرتها علي استيعاب التطور السياسي الجذري وأبعاده.
فلو أننا عدنا أياما قبل خطاب الرئيس في محافظة المنوفية16 فبراير الماضي, سنجد أن الأحزاب المصرية كانت قد اتفقت في حواراتها مع الحزب الوطني الديمقراطي علي تغيير الدستور, بعد انتخابات الرئاسة المقبلة في سبتمبر من هذا العام, ولكن جاء طلب الرئيس مبارك من مجلسي الشعب والشوري, حسب صلاحياته الدستورية سابقا للجميع, بتعديل تلك المادة بما شكل مفاجأة بكل المعايير للشارع السياسي, باتجاهاته المختلفة, بما فيها الحزب الوطني الديمقراطي, فالجميع كان يستعد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية بالأسلوب القديم, ولم يمكن لأحد, مهما تكن توقعاته, إدراك هذا التحول الكبير, أو استيعاب تلك الجرعة.
ولذلك وجدنا ظواهر عديدة نتيجه لذلك فالأحزاب السياسية أوقعتها المفاجأة في التخوف المعتاد لديها, فليس سهلا عليها أن تطرح منافسين قادرين علي إدارة حملة انتخابية تنافسية, لم نتعود عليها بعد, حتي الحزب الوطني الحاكم لم يدخل في تاريخه معركة رئاسية, فالتجربة جديدة علي النظام الجمهوري المصري منذ نشأته بعد قيام ثورة23 يوليو, وكلنا يعرف أنه حتي في فترة الليبرالية التي تنافست فيها الأحزاب المصرية قبل الثورة في العهد الملكي, كان يحكمها نظام وراثي لأسرة محمد علي منذ أكثر من150 عاما, بالتالي فهذا التحول الاستراتيجي الكبير, صدم البعض, ولم يستطع البعض الآخر فهم مضمونه.
فاستمرت حركة بعض الأحزاب أو القوي السياسية علي نفس منهجها ولغتها, وكأنها لم تدرك طبيعة المتغير الاستراتيجي, ورفعت شعارات قديمة كانت أطلقتها مجموعة من السياسيين, مثل التوريث أو التمديد, وهي لا تنطبق علي الحالة المصرية فهي أفكار مستوردة من سياسات وأنماط إقليمية وخارجية, ويبدو أن حالة الفراغ, والتخوف جعلتهم يستوردون هذه الشعارات الخارجية.
وكان من الطبيعي أن يدرك السياسيون الكبار, الذين عاصروا قيام الجمهورية في مصر, ووضعوا دساتيرها وبرامجها الإصلاحية, أن يسارعوا إلي شرح هذه المتغيرات السياسية, بعد أن يتحول اختيار الرئيس إلي الانتخاب بدلا من الاستفتاء باعتبارها خطوة جوهرية, وفي صميم الجمهورية الجديدة, التي يشارك فيها الشعب بطوائفه جميعا, مباشرة في الانتخاب عبر المنافسة, وليس الاستفتاء, بما يعني تدعيما للجمهورية الحقيقية عبر تغيير الدستور بطريقة شرعية, تحمي مصر من السقوط في هوة الفراغ أو التخلف عن الإصلاحات السياسية.
لذلك بدا معظم السياسيين, وكأن سرعة هذا التحول أخذتهم فجأة, فتجمدوا في أماكنهم, وظهروا وكأنهم لا يريدون الانخراط في بناء المرحلة الجديدة, واستخدموا لغة قديمة, إما لضعفهم أو عدم قدرتهم علي التكيف والنزول إلي الجماهير في الشارع بلغة مختلفة, تتناسب مع الأوضاع الجديدة, أو لأنهم استسهلوا وتعودوا علي أنماط تفكير بالية, فأعجزتهم اللحظة الراهنة, وكأنهم جاءوا من الماضي.
أما بعض القوي السياسية الأخري, والتي بنت أفكارها وشعاراتها علي ما قبل خطاب الرئيس مبارك في المنوفية, فقد وجدت صعوبة في التغيير, فاستمرت علي نفس المنهج, وأرادت الخروج من هامشيتها بالصراخ, فنزلت إلي الشارع, والقوي التقليدية الأخري, صاحبة الشعارات الدينية, أرادت استعراض قوتها,
فدعت إلي التظاهر, فوجدت الأحزاب المختلفة, بما فيها الحزب الوطني, نفسها في قلب هذا المناخ, ودخل الجميع في مصر طورا سياسيا مختلفا, فلم تواجه الأجهزة الأمنية هذه التصرفات بالقوة بل استوعبتها, وحسنا فعلت, فقد أدركت أن المرحلة المقبلة هي مرحلة تنافس سياسي, وسوف تشهد مزيدا من الشد والجذب, فالقوي السياسية مازالت في مراحل التكوين, وخبرتها ليست كافية, حتي تستطيع أن تقدم نفسها إلي ناخبيها بأساليب طبيعية, ولذلك فليس من المستغرب استمرار التقليد وعدم تغيير الشعارات, واللجوء إلي الأسهل وهو التظاهر, وينبغي تنظيم هذه الوسيلة وتخصيص أماكن لمن يريد أن يتظاهر, حتي لا يعوق حركة المرور, ولا تتأثر الممتلكات العامة, ويتم تعطيل سير الحياة, فليس عيبا أن تتظاهر, ولكن عندما تستغل هذا الأسلوب للإضرار بمصالح الآخرين, فإننا نضر بالتجربة السياسية الوليدة.
وكل الأحزاب والقوي عليها أن تضع أجندة جديدة لنفسها, تتناسب مع هذا التطور الهائل الذي يحدث في مصر, فالتغيير لا يأتي إلا بإشاعة روح تقبل التحدي, وتدفع ثمن التطور والنمو.
دخلت مصر في مرحلة جديدة, ويجب جميعا أن نسهم في شرح أبعادها, ونجعل أبسط مواطن يستوعبها ويؤمن بها, فالعالم ينظر إلينا, ويجب أن يسارع سياسونا ومثقفونا إلي شرح التطور الجديد, وليس التخويف منه, أو باتهامه بأنه يتم بضغوط خارجية, أو أنه شكل تجميلي لنظام سياسي قديم.
ما يحدث في مصر الآن هو تطور استراتيجي هائل للأجيال المقبلة, وطريقة تعاملنا مع هذا المتغير ستكشف عن قدرتنا, ورؤيتنا لمستقبل مصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وعلي القادرين إدارة هذا التغيير بالحكمة, وأما غير القادرين فعليهم أن يستوعبوه ويحاولوا التكيف معه, وإذا لم يستطيعوا في هذه الدورة, فهم قطعا سوف ينافسون بقوة في الدورات القادمة, ويجب ألا يلجأوا إلي التخويف, فنحن في شارع يقظ, يدرك المتغيرات, ويفهم المستقبل جيدا.