مقالات الأهرام اليومى

قمة الجزائر‏..‏ الكليات والجزئيات

لا يتوقع أحد من قمة الجزائر تطورات مثيرة‏,‏ فلا هي ستأخذ قرارات غير تقليدية بالنسبة للمصير العربي أو مستقبل المنطقة‏,‏ ولا حتي لطبيعة النظام العربي الراهن ومنظماته‏.‏

كما لا ينتظر أن تتفاقم الخلافات‏,‏ ويصدر قرار بتأجيلها بشكل مفاجئ كما حدث في قمة تونس العام الماضي‏,‏ مما جعل بعض أركان هذا النظام‏,‏ وفي مقدمته مصر يسارع لإنقاذ ما تبقي من التعاون العربي‏,‏ فعادت القمة للاجتماع‏,‏ وسارت الأمور بشكلها الطبيعي‏.‏

ورغم أن القمة الجديدة تجيء بعد‏60‏ عاما علي قيام جامعة الدول العربية‏,‏ انعقدت خلالها‏30‏ دورة‏,‏ وقمة الجزائر هي الخامسة منذ أن أصبحت دورية في عام‏2000‏ في الأردن‏,‏ الأمر الذي اعتبر حدثا مهما في تاريخ النظام العربي‏,‏ لأنه كما هو معروف‏,‏ فإن أنظمتنا في كل الدول العربية تقوم علي أكتاف مؤسسة هذه القمة‏,‏ حيث إن دولة المؤسسات التي نعرفها في الأنظمة الحديثة مازالت في طور التكوين‏,‏ ولم تتعمق بشكل يسمح بأن تقوم مؤسسات قادرة علي بناء نظام إقليمي فعال‏.‏

وإذا نظرنا بدقة إلي قمة الجزائر فسنجد كثيرا من جزئيات من الممكن أن نحتفي بها‏,‏ وتشير إلي أن المنطقة تموج بنوع من الحركة الإيجابية تبدد بعضا من مخاوفنا علي المستقبل‏,‏ وتكسبنا نوعا من الثقة الجزئية في النظام العربي الراهن‏.‏

أما إذا نظرنا إلي الكليات‏,‏ فسوف نكتشف أن الذي نراه إيجابيا‏,‏ أصبح لا يكفي في عالم يتغير بسرعة‏,‏ فالتطورات المتلاحقة‏,‏ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا‏,‏ تجعل من نظامنا الحالي هشا باهتا‏,‏ والأخطر أن الرأي العام سوف يبتعد كثيرا عن الاهتمام به وبمصيره‏,‏ وسوف تنتقل المتابعة إلي ما هو أجدي وأسرع‏,‏ وهي مخاطر جمة تكتنف المنطقة العربية وتزيد متاعبها‏,‏ وتحد من قدراتها علي مواجهة الأزمات‏,‏ وتصحيح أوضاعها‏,‏ فالأزمة العربية التي تواجه كل بلدان المنطقة أعضاء الجامعة‏,‏ لا يمكن حلها بشكل منفرد‏,‏ ولأنه بحكم طبيعة ظروفها الراهنة‏,‏ ينبغي أن تترابط في نظام إقليمي موحد متماسك‏,‏ يسمح بقيام تكتل سياسي قوي‏,‏ إقليميا واقتصاديا‏,‏ من خلال إنشاء منطقة تجارة حرة تكون مؤثرة‏,‏ وليست هامشية كما يحدث الآن‏.‏

فالمنطقة تأخرت عن قيام أي مشروع اقتصادي مؤثر علي صعيد تبادل السلع والخدمات أو رؤوس الأموال‏,‏ أو حتي العمالة بين الدول الأعضاء‏,‏ رغم ما تواجهه معظمها من أزمات سكانية وديموجرافية‏,‏ سواء من حيث تزايد النمو السكاني في بعض المناطق أو تناقصه في مناطق أخري‏,‏ فإنها استوردت عمالة من خارج المنطقة أثرت ولاتزال في كيانها اجتماعيا وسياسيا‏,‏ وباتت مخيفة علي ثقافتها في المستقبل‏.‏

والأنظمة العربية غير المتعاونة‏,‏ والمتنافسة والمتناقضة أحيانا ستقع فريسة للضغوط الخارجية‏,‏ من حيث تشكيل أنظمتها السياسية‏,‏ ومع ذلك لم يبادر إلي الآن أحد بتقديم مشروع سياسي للتعاون العربي‏,‏ وكما وقعت المنطقة في بؤرة الضعف الاقتصادي نتيجة لهذا السلوك‏,‏ فإنه من المتوقع أن تكون فريسة للضغوط السياسية‏,‏ ولم يبق أمام النظام العربي الراهن إلا التعاون في حل المشاكل العاجلة والأزمات المستعصية وأهمها القضية الفلسطينية‏.‏

أما مصر فتدخل هذه القمة ومعها رصيد من الحركة الدبلوماسية يسمح لها بأن تقول إنها مثلت النظام العربي أفضل تمثيل‏,‏ عندما ساعدت علي عقد قمة شرم الشيخ في الثامن من فبراير الماضي‏,‏ وحضرها الرئيس الفلسطيني أبومازن والملك عبدالله ملك الأردن‏,‏ ورئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون‏,‏ وذلك لإعادة تصحيح مسار الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي‏,‏ ونقله إلي مكانه الطبيعي أي استئناف التفاوض فمن خلاله يمكن أن يحقق الفلسطينيون مصالحهم القومية‏,‏ وقيام دولتهم‏.‏

ولم يتوقف الدور المصري البارز في هذا الإطار‏,‏ بل امتد إلي تقوية البيت الفلسطيني بتنظيم حوار الفصائل متباينة الرؤي والإستراتيجيات‏,‏ ونستطيع أن نقول إن الحوار قد نجح بامتياز‏,‏ والتف الجميع حول الرئيس أبومازن‏,‏ بما سوف يسمح بتغيير النظرة الدولية إلي الشعب الفلسطيني وقضيته‏,‏ مما يزيد من مكانة الفلسطينيين في حال التفاوض مع الإسرائيليين‏.‏

أما القضية الأخري المهمة فهي كيفية مساعدة القمة علي تجاوز أزمة احتلال العراق أمريكيا‏,‏ والتي كان من نتائجها تفشي الإرهاب الأسود في العراق‏,‏ والذي يحصد اليوم أرواح العراقيين بشكل مخيف‏,‏ حتي أصبح الموت مجانيا وجماعيا لأشقائنا العراقيين‏,‏ وحالة الاستعصاء الأمني في العراق تستلزم تعاونا عربيا للخروج من مأزق وضعنا فيه الاحتلال الأمريكي ومن قبله الديكتاتورية‏.‏

أما القضية الجديدة العاجلة‏,‏ فهي كيفية مساعدة سوريا أمام الضغوط الخارجية حتي تستطيع أن تواجه الأزمة بقوة مناسبة‏,‏ ولعل الخطوات السورية الأخيرة بالخروج السريع والآمن من لبنان‏,‏ حافظت علي مكانة وعلاقات الشعبين السوري واللبناني‏,‏ وأدت إلي احترام قرارات الشرعية الدولية‏.‏

لكن التطورات هناك مازالت في حاجة إلي تعاون عربي مؤسسي منظم للكشف عن أبعاد جريمة قتل رفيق الحريري‏,‏ فقد أصبحت قضية دولية وإقليمية‏,‏ والتعاون العربي في هذا الموضوع يحمي الجميع من السقوط في هوة الشائعات والاتهامات المتبادلة‏.‏

ولعل أفضل رسالة يمكن تقديمها في قمة الجزائر إلي شعوب المنطقة‏,‏ هي إطلاق حرية الحركة والعمل في المنطقة العربية لمبادرات الجماهير والمجتمع المدني‏,‏ بلا حواجز أوبيروقراطية‏,‏ علي أن يتعاون الجميع في إقامة نظام يجعل من بلداننا جزءا من إقليم واحد‏,‏ وليس دولا فرادي في عالم متكتل‏,‏ حتي نصبح جزءا من العالم‏,‏ فمن حق الأجيال الجديدة الحياة والعمل والتفاؤل بالمستقبل‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى