الرسالة الجديدة من لبنان

سألني سائل ماذا يحدث في لبنان؟ فقلت له علي الفور إنه شعب عظيم لبلد جميل, وجاءت جريمة مقتل الرئيس الحريري اختبارا له ولقدراته السياسية, فارتفع هذا الشعب إلي المستوي الأسطوري الذي يليق به, وخرجت طوائفه والتحم المسيحي مع المسلم في نسيج يجب أن يتحقق في كل منطقتنا, لأن الأديان نزلت, لتحسين علاقات البشر بخالقهم وبعلاقاتهم الإنسانية معا, ولتكريس وحدة الإنسان وليس للخلاف والتقاتل, وهكذا كانت لبنان واللبنانيون بعد جريمة نكراء أصابت الرجل الذي وهبته الطبيعة ملكات سياسية واقتصادية نادرة, وكان ظهوره في فترة صعبة وخطيرة بعد حرب أهلية مدمرة, فأسهم في إعادة التئام الطوائف المتناحرة في الطائف, وفي إعادة إعمار أجمل المدن العربية بيروت.
وعندما وجد أهل لبنان, تقاعسا حكوميا في كشف حقيقة الجريمة ومرتكبها, أو ردا للفعل لا يتناسب مع حجم الجريمة المروعة, حدثت انتفاضة الشعب والبرلمان وتلك خصلة وفاء يجب أن نحترمها فيهم, وعندما يطالب اللبنانيون باستقلالهم وسيادتهم وانسحاب الجيش السوري فهذا حقهم, ويجب أن نحترمهم علي ذلك, وأن يساعدهم كل العرب, و السوريون أنفسهم.
حتي نحافظ علي الروابط والعلاقات القوية بين سوريا ولبنان تلك حقائق السياسة العصرية ويجب ألا نتجاهلها, لكن عندما يطالب السوريون بحقهم في سلام شامل وبالتنسيق مع لبنان, فهذا حقهم كذلك ويجب أن نساعدهم في ذلك.
الانتفاضة الشعبية والبرلمان اللبناني بل الحكومة المستقيلة كانت عند مستوي المسئولية, فالمتظاهرون رفعوا علما واحدا, والبرلمانيون المعترضون كانوا مصممين علي الحفاظ علي الشرعية, والحكومة استقالت احتراما للشعب رغم أنها كان من الممكن أن تحتفظ بموقعها بالتصويت, لكنها قرأت نبض الشارع واحترمته, لذلك وجب علينا احترامها.
أما صورة اللبنانيين فأكدت قدرة الشعب وحقه, ويجب أن تسكت الأصوات التي تبرر قيام الانتفاضة الشعبية بالتدخل الخارجي, لأنه لا يستطيع أن يحرك الشعوب. فلا تعطوا للخارج هذه القوة, فالذي لا تعرفونه أن التدخل الخارجي لا يمكن أن يتم إلا عندما تكون هناك أخطاء داخلية كارثية, تجعل الشعوب تضج وتخرج علي الطبيعي والمألوف حتي يصل بها الغضب إلي القبول بالأصعب وهو التدخل الخارجي, وعلي العرب الذين يرفضون التدخل الخارجي. الذي يعبث بمصالحنا ويضر بمستقبلنا إدراك أن منع هذا التدخل يعني التصحيح واحترام إرادة الشعب ومعرفة حقائق العصر.
لبنان بلد مستقل. كما أنه ليس أسيرا, ويجب ألا يكون ورقة سياسية إلا بإرادة شعبه, حتي ولو كان ما يطلبه الشقيق مشروعا.
واحترام القرارات الدولية وشرعيتها يجب أن يكون سريعا, حتي ولو كنا نرفضها, لأن هذا يحمينا من مخاطر جمة, تلك حقائق يجب أن يعرفها كل العرب, خاصة الذين يتعرضون لأزمات داخلية صعبة ومتشابكة ومعقدة في زمن يصعب فيه علينا كثيرا إخفاء الحقائق, وعدم المكاشفة فأزمة لبنان. وأساليب العرب في معالجتها تكشف عن ضعف خطير في رؤيتهم يسمح للتدخل الخارجي بأن يتغلغل ويقوي, لأننا لا نملك شجاعة مصارحة بعضنا البعض بأخطائنا, لكننا نتخفي دائما وندور حولها ولم نتعلم بعد من كارثة العراق رغم تداعياتها المخيفة ونبرر لأنفسنا وننقد الآخرين ونطرح أخطاءهم وكوارثهم ولا ننقد أنفسنا, ونصحح أخطاءنا بوقفة صريحة مع النفس, واحترام إرادة الأغلبية والاتجاه إلي ديمقراطية شاملة, تغير صورة منطقتنا وتحمي الجميع.
وبلاشك فإن اللبنانيين أثبتوا أنهم شعب مختلف, ولكن عليهم الآن الاتفاق والحوار معا بلا تخوين من البعض أو تخويف من البعض الآخر, مع المصارحة من الجميع واحترام الشقيق لحق شقيقه وحريته, ولاشك أن حل الأزمة سلميا مع احترام الشعب وديمقراطيته سيعطي صورة لمستقبل التحولات في منطقتنا, ونموذجا يؤكد قدرتنا علي التغيير والتصحيح بلا حروب أو تدخلات خارجية مخيفة لا نتحملها ولا نقبلها, ويجب أن نثبت قدرتنا علي التغيير بإرادة داخلية عاقلة وقوية.
د. عاطف صدقي ظاهرة خاصة
كل من تابع سياسة مصر الداخلية, وقف كثيرا أمام ظاهرة د. عاطف صدقي رئيس الوزراء الراحل, ليس لأنه أطول رئيس الوزراء عمرا في الوزارة,11 عاما86 ــ1997, وليس لأنه أنجز ـــ خلال توليه أرفع منصب تنفيذي في مصر ـــ أجرأ برنامج للإصلاح الاقتصادي, عالج من خلاله اختلال الموازين الاقتصادية الخطيرة في مصر, والتي كان من أبرزها الميزانية المصرية المختلة, ففرض نظام ضريبة المبيعات الذي اعتبر ماكينة ضخ أموال للحكومة بشكل مثالي, وتحمل نتيجتها هو ووزير ماليته د. الرزاز, وتحملا كذلك كل أنواع النقد الإيجابي وغير الإيجابي, والسطحي أحيانا الذي وصل إلي حد اغتيال شخصيتيهما أمام الرأي العام, وكانت هذه الأموال هي الممول للبنية الأساسية الضخمة التي انتشرت في مصر بعد ذلك.
كما أن د. صدقي هو مهندس الإصلاح الاقتصادي الأول بهدوئه وعمقه فقد خاض في كل المشاكل الجسيمة ودخل بيوت العنكبوت الاقتصادي بكل مخاطرها, بلا خوف, لأنه أدرك أنه لا مفر من العلاج وتصحيح الأوضاع وحماية مستقبل البلاد والأجيال, وإسهاماته عديدة ومشروعاته العملية كثيرة.
ولكن الذي أدهشني, وسوف يبقي طويلا للدكتور عاطف صدقي هو طريقة الرجل في العمل وشخصيته المتواضعة, فهو لا يتفاخر بعمله علي الإطلاق, إنه نموذج نادر بين السياسيين الذين مروا علينا في تواضعه الجم وعلمه العميق وأدائه الرفيع, وطهارة يده الكاملة فقد كان الرجل الطيب بحق.