الجريمة والمشهد الحزين!

هذا المقال ليس كلاما في السياسة, أو في تحليلها, ولكنه صورة لمشهد مثير وحزين, لا يمكن لأي مهتم بالشأن الإقليمي أو المحلي أن يتجاهله, لأن حجم تأثيره سوف يتفاقم ويتفاعل مع الأيام, فهو من الأحداث المهمة, يولد كبيرا ويظل ينمو دون توقف, حتي ينفجر, لأنه ينمو نموا مرضيا, وإذا لم نواجهه بالعقلانية والشفافية, فإن تأثيره سيكون مخيفا, ليس علي أصحابه المتآمرين وحدهم بل علي الجميع.
إنه مثل الشأن العراقي, عندما عجزنا عن مواجهة الديكتاتورية بكل قوتها وجرائمها, فانفجر الوضع ولم يكن سقوطا عراقيا فقط, بل عالميا وإقليميا, ولن يستطيع العالم تجاوزه الآن وحتي لسنوات قادمة.
أما المشهد الذي أقصده, فهو جريمة اغتيال رفيق الحريري( فبراير2005) رئيس الوزراء اللبناني الراحل, وخطورة ذلك, أن الحريري شخصية مركبة الأبعاد, متشابكة الغايات والقدرات, فهو من الشخصيات الاستثنائية التي قد يكون ظهورها في أوقات الأزمات طفرة بشرية تخلقها الطبيعة, لتخفف من حدة الآثار السلبية للكوارث علي الإنسان, أو تعطي الفرصة وتهييء المناخ لتجاوز الكارثة.
وقد نجح الحريري بتخطيطه في قيام جمهورية لبنانية جديدة, خرجت من أعطاف حرب أهلية طاحنة, هي الأطول عربيا(1975 ــ1990) بمشاركته بكفاءة وعقلية سياسية برجماتية, فحشد الطاقات اللبنانية والقوي الإقليمية القادرة لعقداتفاق الطائف1989, لإنهاء حرب طاحنة أكلت لبنان بكل طوائفه, ولعب أدوارا سياسية متعددة عبر الحكومات التي ترأسها منذ1992 وحتي التمديد للرئيس لحود2005, وكان نموذجا للسياسي الذي يحفظ شعرة معاوية مع الجميع, بما جعله حالة لبنانية سياسية نادرة.
وفي الاقتصاد فإن إمكاناته واتصالاته كرجل أعمال, ومنظم أعمال قوي وملياردير ذي وزن عالمي صار بشخصه الضمانة المالية والقدرة التنفيذية لإعادة بناء وسط مدينة بيروت, وعودتها عاصمة حية ومتجددة ونابضة, يعني أنه أعاد الحياة للعاصمة التي تغني كل العرب, كرمز للثقافة والسياحة والجمال, والتسامح والتعايش بين جميع الطوائف والأديان, وأعاد الاقتصاد والحركة للبنان, وجعل اللبنانيين يعيشون ويتنفسون من جديد, وبالرغم من أن هناك صعوبات وديونا وآلاما, فإن الحياة عادت وعاد معها الأمل, والذين ينقدونه لا ينكرون عليه هذين العملين الكبيرين, لأنهما من الأعمال الخالدة وهما إيقاف حرب طائفية ودينية صعبة وقاسية علي بلد أو منطقة, وإعادة بناء مدينة عربية غالية.
صحيح أن هناك ديونا ومشاكل كبيرة تواجه البيت اللبناني ولكن من قال إن الحرب والدماء والخراب ليس لها أثمان غالية تدفعها الأجيال, كما أن بناء الأوطان ليس عملية سهلة. ورفيق الحريري السياسي والاقتصادي(1944 ــ2005) لم يضع حياته هدرا, وحصل علي مكافأته فقد ودعته الملايين, وأدرك الكل وزنه, وأنه سياسي واقتصادي من العيار الثقيل, عندما دقت أجراس الكنائس وتعانقت مع مؤذني المساجد وتراتيل القرآن, وتلاقت الطوائف في مسيرة رحيله,أعتقد أن الراحل كان لا يريد أكثر من هذا ختاما لحياته, ومما يزيد من قيمته, أنه لم يرحل رحيلا عاديا, ولكن في جريمة بشعة ومجرمة, ستجعل من قبره مزارا لكل القوي التي تبحث عن حياة كريمة وحرة.
ذلك هو المشهد المثير والحي والمتجدد, ولكنه حزين لأن الجريمة ستظل معلقة كالأجراس فوق رؤوس الجميع, حتي يعرف الفاعل أو المجرم, مخططا أو منفذا, ولأننا سوف نعمل كل عقولنا وربما نعجز عن معرفته, فالذي يتصدي لجريمة بهذا الوزن, قوي غير عادية تملك التجهيزات والإمكانات المخابراتية, ولأننا لا نعرف الفاعل ولا نريد للخيال أن يجنح أو حتي نستمع لرأي الشارع ــ الذي قديكون حدسا ــ فإننا نملك توصيفها, ذلك أن أوضاع الحروب والاحتلال الطويل, تخلق مافيا وفسادا وجريمة منظمة, تتحرك وحدها, إذا شعرت بأن هناك من يهدد مصالحها أو يريد أن يوقفها.
ويبدو أن العمل الثالث والكبير الذي كان يتحرك نحوه الحريري لحظة اغتياله أنه كان يريد للبنان عودة كاملة للحياة الطبيعية, وأن يكون واحة استقرار إقليمي في منطقة الشام, عبر إجراء انتخابات وتجديدالنخبة واستقلال القرار اللبناني وسيادته, وكان يقيس حركته بمقياس دقيق لا يسمح بالجنوح, يحترم شركاءه الإقليميين المهمين, وفي مقدمتهم سوريا, ولا يقلل من تأثير وحجم المجتمع الدولي, سواء كان فرنسا أم أمريكا.
وعمل بهذا الحجم والخطورة يهدد أصحاب مصالح كثيرين ترتبت أوضاعهم لسنوات طويلة علي أوضاع مقلوبة, ومافيا فساد وقع في شباكها مثلث يتحدث عنه الجميع( المخدرات والأعمال القذرة) فمن ارتكب الجريمة قد يطول البحث ويعقده, لكنه بالقطع سيكون ممكنا بعد سنوات طويلة أن نعرف الجاني, بعد أن تتغير القوي وتصحح الأوضاع.
لكن ما يحتاجه اللبنانيون الآن أن نساعدهم عبر توضيح كيف يلتئم الشمل, ولايحدث النزاع والانقسام والتشرذم, وهذا يحتاج إلي تدخل عربي عقلاني ومحايد وشجاع, يمهد لجمهورية مستقلة تخرج من معطف الطائف المؤقت, توحد اللبنانيين, لا تفتح بابا واسعا للتدخل الخارجي القاسي. لبنان يستطيع الآن التوصل ــ وبتدخل من الأمم المتحدة والقوي الكبري ــ إلي اتفاق سلام نهائي, يجعل الطوائف اللبنانية جميعا علي قدم المساواة, ويضمن سلامة الأراضي اللبنانية, ويشعر اللبنانيين بالاستقرار والحرية.
وليتذكر الجميع أن جريمة رفيق الحريري, ليست من الجرائم التي تموت, والذين يراهنون علي الزمن لحل كل المشاكل والجرائم بدون تحرك ايجابي وفعال, ثبت أن رهانهم خاسر, وغير صحيح, فلنصحح كل الأوضاع, قبل فوات الآوان.