عالم ما بعد شرم الشيخ

الفلسطينيون مشغولون وأمامهم مهام كثيرة, فقد أصبحوا محط الاهتمام الدولي, وعليهم أن يمسكوا بالفرصة السانحة, فهي ليست مثل كل الفرص التي ضاعت, وجعلت أرضهم رهنا بالفرص الضائعة, أو قضية تدور ضد عقارب الساعة من قبل, ويلاحقها سوء الحظ.
فمنذ أن خرجوا من قمة شرم الشيخ, بعد أن جلس ثلاثة زعماء عرب بقيادة مصر يفاوضون آرئيل شارو ن من أجل فلسطين, تغيرت الصورة ودارت العجلة, وأصبحنا في عالم جديد قد يكون هشا في البداية.
ولكن لأن المتغيرات حقيقية, فالمسئولية لجعل قمة شرم الشيخ متغيرا لا يمكن العودة إلي ما قبله ليست مسئولية الفلسطينيين وحدهم, وإنما مسئولية الجميع, خاصة شركاءهم في هذه العملية, أقصد الإسرائيليين.
فقد حانت لحظة حقيقتهم, وسوف يدفعون هذه المرة, ولن يتوقفوا حتي قيام الدولة, والفلسطينيون عليهم أن يدركوا المتغيرات, فلا يترددوا في دفع التزاماتهم, لأن انتصارهم هذه المرة, لا يقبل المجادلة, ولا يتحمل سوء الحظ أو التخويف, وبالتالي فالمسئولية صارت مضاعفة.
فمجيء شارون إلي شرم الشيخ لم يكن سهلا, لكن حضوره ومصافحته القادة العرب يعد اعترافا منه بأن هناك حقا, فصاحب اليد الحديدية, والقوة العسكرية الباطشة, أدرك أخيرا أن الأمن والسلام والحياة الهادئة والآمنة لشعبه لن تأتي من دون اتفاق مع الشركاء وليس باستسلامهم, كما كان يريد ويخطط, وينفذ, وأدرك أن السلام لا يصنعه منتصر ومهزوم, بل يصنعه طرفان متعادلان, وتلك حقيقة أولي, ينبغي ألا يجادل فيها أحد, أما الحقيقة الثانية والمهمة, فهي أن المقاومة والانتفاضة الفلسطينية بعد أربع سنوات ونصف السنة لم تذهب هدرا, فقد خلقت واقعا جديدا, وأفرزت رئيسا منتخبا للسلطة, يملك الرؤية ليترجم انتصار الانتفاضة إلي واقع سياسي, يحمي حقوق أصحابها, ويصوغها في اتفاق أمام الشهود العرب والعالم.
وإذا كانت هناك حقيقة ثالثة, فهي أن شارون وجماعته في إسرائيل لم يستطعوا أن ينجحوا في مساعيهم في الربط ما بين الانتفاضة والإرهاب بعد أحداث11 سبتمبر2001 في نيويورك ـ واشنطن, لأن هناك فرقا بين مقاومة شعب تحت الاحتلال وبين الإرهاب الأسود, ومهما تكن قوة المغالطة واستغلال الظروف, فإن الحقيقة ظاهرة ولا يمكن إخفاؤها.
ولذلك شعرت بانتصار الفلسطينيين في شرم الشيخ, ووضعت يدي علي قلبي خوفا من ألا يراه المتعصبون والمتطرفون من أهلنا, فهم عادة لا يرون الحقيقة كما تعودنا, ويعيشون في أوهامهم وخيالاتهم, ويندفعون وراء السراب بحثا عن المجهول, في حين أن الحقيقة تحت أيديهم وأمام أعينهم, ويحتاجون إلي العقل والخيال وحده حتي يروها, ليصنعوا منها الانتصار, ولا يهدروها في مهرجان الفرص الضائعة التي عشناها, فمنذ اندلاع القضية الفلسطينية لم نر منها إلا وجها واحدا, كان فيه الطرف الآخر ينجح دائما في قضم الأرض وابتلاعها, وكنا لا نريد أن نري, ونقف مترددين, وكان الخوف يسيطر علي قرارنا, ويدفعنا بعيدا عن مصالحنا الحقيقية.
لكن هذه المرة هناك قادة قادرون علي تحمل المسئولية, رغم معرفتهم بشارون وإحساسهم بأن الجلوس إليه ليس سهلا أو ممتعا, فإنهم نظروا إلي مسئوليتهم الجسيمة, وإلي التاريخ والمستقبل, وأرادوا أن يصنعوا الدولة, ويحموا الشعب الفلسطيني.
وقد استطاع الفلسطينيون عبر نضالهم الطويل والشاق أن يدخلوا إلي الضمير الإنساني, وبات اليوم أنه دون تقرير مصيرهم وإعلان دولتهم, فإن السلم العالمي سيكون معرضا للمخاطر, وهذا لا يعني غلوا فلسطينيا أو تطرفا, بل احتراما للحق وسعيا إلي تحقيقه.
والرهان الآن علي ماذا ستفعل المقاومة الإسلامية, هل هي قادرة علي التحول إلي قوة سياسية تتحالف مع السلطة المنتخبة, وتسير في معادلة السلام وبناء الدولة؟
إنه رهان صعب, وقرار هذه المقاومة الإسلامية سيكون إشارة لمستقبلها السياسي في كل دول المنطقة, فهل هي قادرة علي التعايش في ظل المعادلة الجديدة, أم سوف ترفض وتخرج وتتمرد علي الأغلبية, وساعتها ستكون مسئوليتها ليس في ضياع الفرصة علي الفلسطينيين فقط, إنما في تحجيمها وتأخيرها بعض الوقت؟!
وهنا ستقع المسئولية علي ضميرها, وعليها أن تتحمل التبعات, ليس مخاطر الانعزال فلسطينيا فقط, بل إنها بهذا الموقف سترسل إشارة إلي كل النظم الحديثة إقليميا بعدم قدرتها علي التكيف السياسي, وستبقي خارج الحلبة, فالقضية الفسطينية أقوي من أن تهزمها تيارات دينية حتي لو كان لها نصيب وافر وحقيقي في الكفاح من أجل الدولة.
أما إسرائيليا, فإن الرؤية الآن صارت واضحة, إذ كيف ستتصرف إسرائيل, هل يقودها المتطرفون إلي المجهول, ويدفعونها نحو عدم رؤية المتغيرات داخل بلادهم وفي المنطقة والعالم, فيسيرون علي نهج الأوهام والمغالطات نحو حروب لا تنتهي, ربما تكون دولتهم وقودا لها؟
أما إذا أرادوا أن يكونوا واقعيين, فعليهم أن يسارعوا بدعم سياسات شرم الشيخ, بسرعة إطلاق المحتجزين والسجناء, والانسحاب, والعودة إلي حدود28 سبتمبر2000, وأن يذهبوا إلي المؤتمرات والمباحثات القادمة بروح جديدة, في مؤتمر الرباعية ومؤتمر لندن, وأخيرا مباحثات واشنطن, وكلها مسارات تدعو إلي مستقبل إقليمي متطور.
ويبقي الدور الأمريكي, هل هو قادر علي السير نحو( رؤية بوش) التي تؤدي إلي دولة فلسطينية حسب خريطة الطريق, أم سيفشل الجميع, ويسود فكر المتطرفين أمريكيا وإسرائيليا وفلسطينيا؟!
أعتقد أن السلام سوف ينتصر, وهو اعتقاد سوف يظل أسيرا ومحتكما إلي واقع ومستقبل لا تصنعه الأحكام التقليدية.