الأمن هبـة.. صنعها الإنسـان

الأمن أغلي من الثروات الطبيعية, تلك حقيقة يدركها الجميع, فلا يمكن أن تستفيد الشعوب من البترول أو الغاز, مثلا, بدون أمن, ولأن الحياة مستحيلة بدونه, ولأنه هبة, ونعمة غالية, فقد اختص الخالق الإنسان بصناعتها والحفاظ عليها.
أدركت تلك الملاحظة, عندما كنت في طريقي لمقابلة حبيب العادلي وزير الداخلية, برفقة زملائي الصحفيين, عقب انتهاء جلسات رئاسته لمجلس وزراء الداخلية العرب في تونس العاصمة.
فأن تستمع وتتحاور مع المسئول الأول عن الأمن, وتنفيذ القانون, لكي تعرف كيف تخطط مصر للحفاظ علي استقرارها, وأمنها في عالم صعب, ومنطقة أصعب تسودها المخاطر, وهناك عام مصري حاسم هو2005, تلك مهمة يجب أن تحتشد لها, وتركز حواسك لسبر غور محدثك, فتدرك وراء ما يقول, وعليك أن تثق أو تقلق, خاصة أنك أمام متحدث قليل الكلام, ويبدو كأنه بسيط, لكنه في الحقيقة عميق, وواضح تماما أنه يعني ما يقول, فهو بحكم موقعه الحساس تبدو قوته ظاهرة, غير أنها لا تخيف لأنها موضوعية, وتستند إلي القانون الذي بدونه تتحول المجتمعات إلي فوضي وفساد.
وأنت في طريقك إليه تقابل معاونيه, فتجد ظاهرة تكاد تكون غالبة علي الجميع, هي أن معظمهم تسبق ألقابهم درجة الدكتوراه, قبل رتبة اللواء, وكانت تجهيزاتهم للمؤتمر, قد حولت حجراتهم إلي غرف عمليات مليئة بأوراق ومعلومات, وأرقام أفرزتها الكمبيوترات, وأول ما تلاحظه هو أنك لست أمام وزير داخلية, كما كنت تعرفه في الماضي, بل ممثل مؤسسة أمنية حديثة تعمل بروح الفريق, وتحلل وتدرس وتجمع المعلومات وتتحرك في نفس الوقت, ومركزها قوة معلوماتية بمعايير عالمية.
وقد أجابت لي هذه الصورة الماثلة أمامي عن سؤال تردد في ذهني هو: كيف استطاعوا في أقل من أسبوعين أن يصلوا بمعلومات لا تقبل الشك أو التأويل للقبض علي مرتكبي حادث طابا الشهير, الذي فاجأني شخصيا في عام2004, وزلزل الأرض تحت أقدامنا, وأعاد تخويفنا بالإرهاب, الذي أعجزنا لسنوات طويلة؟
وكان لهذا التحرك السريع والحاسم فعل السحر في كل دوائر الأمن في العالم, وإشارة إلي أننا نملك قدرات أمنية سبقت الجميع, وأنها لا تتحرك في الظلام, ولكن عبر الخريطة المعلوماتية وقراءتها للأحداث قراءة دقيقة, وقد أجابت أيضا عن سؤال ألح علي كثيرا, هو: هل عادت الظاهرة الإرهابية لمصر مرة أخري؟ لكن إجابة الوزير العادلي كشفت لي ولزملائي, عن أن الانتصار الذي تحقق في معركة الإرهاب الأسود, والتطرف الديني التنظيمي ـ والذي اقتلعته الشرطة المصرية تقريبا من التربة المصرية ـ لم يعد في طابا, وإنما الذي عاد هو إرهاب آخر أو موجة جديدة, يجب أن نحذر منها, وجاءت من تأثيرات الاضطرابات السياسية في منطقتنا, سواء كانت في فلسطين أو العراق.
أما التنظيمات الإرهابية فقد اقتلعت بنيتها الأساسية, والأهم أن بنيتها الفكرية قد تمت مراجعتها لتصحيح مفاهيمها ورؤاها الخاطئة من خلال أصحابها أنفسهم, الذين درسوها بحرية كاملة, بلا ضغوط عليهم, فاكتشفوا أن كل ما بنوا عليه من أفكار للتطرف وتكفير المجتمع كان غير صحيح دينيا, وأن ما كتبوه بأيديهم ومراجعتهم الفكرية متاح لغيرهم لكي يعودوا إلي دراسته وتقييمه, وأما قوة الدولة والأمن فلم تكن مثار مراجعة أو بحث معهم, فهم جميعا تحت الرقابة التي كشفت أحدهم, وقد تصور أنه من الممكن أن يخدعنا, ولكن التجربة أثبتت أن المراجعة لها نتائج مبهرة وتأثير كبير, لكي يعودوا مواطنين صالحين ويحترموا القانون.
أفاض معنا الوزير في حديثه عن كل خلفيات الإرهاب والتطرف, وذكرنا بأننا خضنا معركة كبيرة للحفاظ علي أمن مصر, كانت في طليعتها الشرطة, لتجنيب بلدنا الخراب الذي تحدثة تلك الفتنة في المجتمعات, بما يجعلنا نخشي علي بلدنا من تكرار تلك المحنة, باستمرار التكاتف والعمل الجاد للحفاظ علي انسجام الوطن وقوته ومنعته, وأن نعمل جميعا إعلاما وبرلمانا ومجتمعا مدنيا ورجال دين إسلامي ومسيحي, لتصحيح كل مفاهيم التطرف بأشكاله المختلفة, وإعلاء قيم القانون وسرعة تنفيذه, علي الجميع صغيرا كان أو كبيرا, مواطنا أو مسئولا, أو رجل دين. فمعركة مصر المقبلة هي ضبط الشارع, ومنع أي خروج علي القانون, لأن في ذلك ضمانة لبناء مجتمع حديث ومتقدم.
أما الجزء الآخر المهم في حديث حبيب العادلي, فكان حول الانتخابات المقبلة في مصر, وقد شرح أن بلدنا يتميز عن كل العالم بحماية صناديق الانتخابات قضائيا, والقضاء هو الضمانة الرئيسية لحياد هذه الانتخابات ونزاهتها, مؤكدا أن الشرطة تحمي العملية الانتخابية, ولا تتدخل فيها, ثم جرت مناقشة حول مطالب البعض بالرقابة الخارجية علي انتخاباتنا, فقال الوزير نحن نثق بأنفسنا, ونحترم قضاءنا, ولا نقبل التشكيك فيه, والرقابة علي الانتخابات مفتوحة لوسائل الإعلام بكل أشكالها وألوان الطيف التي تمثلها محليا وعالميا.
وحول التعاون الإقليمي العربي, أكد أنه يقوم علي تبادل المعلومات, وليس علي نقل الجنود والضباط إلي مناطق الأحداث في فلسطين والعراق, مع استعدادنا لتدريبهم لبناء مؤسساتهم الأمنية في مصر, وعن اتفاقيات لمكافحة الإرهاب والفساد والجريمة المنظمة, وتحديث المؤسسات والأجهزة الأمنية أكد لنا وزير الداخلية الثقة بقدرتنا علي الحفاظ علي أمن الوطن والاستمتاع بأغلي أمنية لأي شعب هي الأمن والاستقرار, لأن بهما وحدهما يمكن تحقيق كل أهدافنا في الإصلاح السياسي والاقتصادي, فلا يمكن إقامة ديمقراطية في ظل فوضي أو توتر أو غياب بنية أساسية فعالة.
كما أن التنمية الاقتصادية لا تتحقق, ولا يتم رفع مستوي المعيشة وجذب رأس مال الوطني والأجنبي للاستثمار والتشغيل, للقضاء علي البطالة, إلا تحت ظلال نعمة الأمن الغالي.
حفظ الله مصر ورجالها ومؤسساتها الحية واليقظة.