مصر والمنطقة والعالم… عام جديد

نخطو ما بين عامين, ومصر تواصل, رغم أوضاعها الداخلية, تقديم مسارات سياسية للخروج من المآزق الراهنة في المنطقة, وقد منحتها حكمتها وزنا سياسيا كبيرا لمساعدة أشقائها الفلسطينيين والعراقيين.
فقد أدارت خلال العام الماضي, في القضية الأولي, مفاوضات شاقة للتنسيق بين الفصائل لجعل قيام دولة فلسطينية حقيقة في المستقبل, وأعادت ربط الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية, بخريطة الطريق وصممت علي إنهاء الانسحاب وفقا لها.
كانت مصر سندا قويا لأشقائها الفلسطينيين, عقب الرحيل المدوي للرئيس عرفات, الذي ودعته في مشهد مهيب, يليق بقيادته وزعامته, بل جعلت من هذا المشهد رسالة للعالم تشير إلي قوة ومكانة مشروع الدولة المرتقبة.
وقبل نهاية العام تحركت واتخذت قرارات مهمة, لتزيد من قدرتها علي الضغط في إطار العمل السياسي وآلياته, وسوف تثبت الأيام أن الاتفاقيات الاقتصادية المعروفة باسم الكويز, أو الإفراج عن عزام عزام, لم تكن إلا جزءا من رؤية شاملة, تمكن مصر من استمرار دورها المحوري في مساعدة الفلسطينيين علي قيام الدولة, خاصة مع تغييرات مهمة تحدث الآن في الأراضي المحتلة, من انتخابات بلدية ثم رئاسية مقبلة, وهي تغييرات تكشف عن قدرة الشعب الفلسطيني ومؤسساته, علي العمل الديمقراطي وأحقيته في الدولة.
مصر ـ إذن ـ لا تمارس السياسة بالقطعة, كما يعمل الآخرون, لكنها تخطط لعملية متكاملة, تمكنها من استيعاب آليات الضغط السياسي, وممارسة الدور الذي يليق بمكانتها, ومما يزيد تلك المكانة هيبة أنها لا تتأثر بالضغوط التي يمارسها المعارضون من المتطرفين علي الجانبين, فهي تقف في مكان مناسب يجعلها رمانة الميزان, وهذا الدور لا يصنعه إلا الحكماء ذوو التاريخ والرؤية الثاقبة.
لذلك, ونحن نستقبل عاما جديدا, يزداد استبشارنا, لأننا في عهد وقيادة حكيمة صنعها الرئيس حسني مبارك في سنوات صعبة, بدءا من قيادته معركة الإرهاب والتطرف في الثمانينيات, وحتي الآن وهو يقود صراعا إقليميا تتداخل فيه القوي والصراعات, ما بين حرب إقليمية وعالمية تقودها أمريكا ضد الإرهاب والتطرف, وبين وضع شائك للقضية الفلسطينية, يريد هو أن تخرج منه, ليصل بها إلي بر الأمان وبين مشكلات جاءت مع تداعيات الحرب الأمريكية علي العراق, والتي استحكمت داخليا وبات يتداخل في ثناياها الإرهاب بالمقاومة, وسط رغبة الشعب العراقي في التحرير وعودة السيادة, وتأتي الصراعات الدينية والطائفية لتكمل الثالوث الخطير, الإرهاب, وفلسطين والعراق, وهو ثالوث ليكاد يصل بالمنطقة العربية إلي حافة الأزمة الشاملة, ولا يمكن لمصر أن تبتعد عن هذه التداعيات, لأنها كانت وستبقي شريكا حيا وفعالا في السياسة الدولية.
ويستطيع أي مراقب أن يري حدود هذه الشراكة وحيويتها, ويدرك أن مؤتمر شرم الشيخ, الخاص بالأزمة العراقية, لعبت فيه مصر دورا رئيسيا, فقد أكدت هي وشركاؤها في هذا المؤتمر أهمية دور كل أطياف الشعب العراقي في بناء دولتهم, بلا تهميش لطائفة أو جماعة, وذلك هو جوهر سياسة مصرية كانت قد رفضت الحرب منذ البداية كطريقة للحل.
ونقول لكل من يتابع قبل أن ترفض أي تحرك, يجب عليك أن تسبر أولا غور الأبعاد التي تتحكم في مسارات العمل السياسي في ظل عالم أحادي القطبية, وفي ظل صراع عسكري محتدم, و حرب معلنة علي الإرهاب وانفجار التطرف بكل أشكاله, في كل قارات العالم.
وسط هذا المناخ, فإن قيادة التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلدنا يعطيها دورا رئيسيا ومحوريا لأن صناعة دور إقليمي, ودون بعد محلي عملية مستحيلة, وثقل مصر سيكون عبر نجاحها في تبني نموذج فعال للإصلاح الاقتصادي.
وبرغم الأزمات الإقليمية الصعبة سياسيا التي شهدها عام2004, فإنه حمل لمصر علي الصعيد الاقتصادي نقاطا إيجابية, وما حدث علي هذا الصعيد, سيكون له ما بعده, وكان من أبرز الإيجابيات تشكيل حكومة شابة, وتقديم روح جديدة في إدارة الاقتصاد, وهي مواقف أثبتت قدرة القيادة علي التجدد باتخاذها سياسة تتسم بالشجاعة, متمثلة في العودة إلي برامج التصحيح والتغيير الاقتصادي, عبر قانوني الضرائب والجمارك العصريين, وحل مشاكل المتعثرين, وفتح الباب لعودة رجال الأعمال إلي تنشيط استثماراتهم, وبعث الحياة في الركود الاقتصادي, وسبق كل ذلك التغيير في القطاع المصرفي باختيار شباب أكفاء قادرين علي الإدارة والتجديد, وهم أنفسهم الذين قادوا سياسة حل مشاكل المتعثرين والمصالحة معهم بشجاعة.
فالخطوة الأولي لجذب الاستثمارات الوطنية والأجنبية, هي حل أزمات المشروعات الراهنة, وفك أسرها وعودتها للإنتاج بآفاق جديدة, عبر معرفة واستيعاب المؤثرات الاقتصادية التي جعلت هذه المشروعات تتعثر وتتجمد.
ولعلنا وسط هذه الروح السائدة, نتمني أن تأخذ الحكومة مزيدا من القرارات الشجاعة, أولا العمل بسيادة القانون, وجعله عنوانا ثابتا في سياستها, والحكومة يجب أن تكون أول من ينفذ القانون ويحترمه ولا تتركه غائبا, وإذا فعلت الحكومة ذلك فسوف يشعر به كل مواطن, مما يجعلنا جميعا نحترم القانون, ونلتزم به, فالشارع المصري يعيش قلقا مبعثه أن القانون إذا تم تطبيقه في حالة, فإنه يغيب في حالات كثيرة, وهذه الاستثناءات لابد أن تنتهي, ونبدأ في تحرير كامل اقتصادنا, وتقوية كل مؤسساتنا الاقتصادية والخدمية, فهو الطريق الوحيد لاستمرار التقدم وحماية مصالح المجتمع.
وكلي ثقة وإيمان بأن عام2005, سيحمل علامات التقدم والتطور لمصر داخليا, ويعطيها دورا إقليميا متميزا, بحيث تقدم لعالمها نموذجا عصريا قادرا علي الاندماج في الاقتصاد والسياسة العالمية, وهو نموذج سيكون صوتا للضمير ويحمي الشرف, ويصون مصالح المجتمع, ويحترم التعايش بين الشرق والغرب, ويقول لتجار الموت إن أقدم بلاد الدنيا وزعيمة الشرق, إذا قالت فعلت, لتنقذ العالم من صناع الحروب والتطرف والإرهاب بكل أشكاله. وكل عام وأنتم بخير.