الدســـــتور.. حصـــاد مبـــــارك

عندما يمنحنا القدر حزما من الأعياد في أيام خالدة في حياتنا.. يجب ألا نمنع أنفسنا من الفرحة. وأن نطلق لخيالنا ـ وهو يحلق في معانيها ـ أن يتدبر كيف صنعنا الحدث.. وأمسكنا باللحظة التي تصنع التاريخ.
لم تكن مفارقة أن تلتقي إرادتان.. شعب وحاكم, مصر ومبارك, في رؤية واحدة متكاملة تنتقل بنا إلي مرحلة تاريخية جديدة في حياتنا السياسية, فيحدث التحول والتغيير والإصلاح السياسي الذي نترقبه من خلال التعديلات الدستورية, التي بشرنا بها رئيسنا وقائدنا حسني مبارك صبيحة يوم الثلاثاء26 ديسمبر2006, والتي تواكبت مع احتفالاتنا بأعيادنا الأضحي المبارك والميلاد المجيد… كل عام وأنتم بخير.
إن القدر لايمنح جوائزه إلا للمستحقين.. وقد منحنا فرحتين.. فرحة العيد.. وفرحة الدستور. ولأننا مستحقون.. وقادرون.. وصانعون للحدث, ولتلك المرحلة التاريخية الفارقة في حياتنا, يجب أن نشعر بها, وأن نعيشها كاملة, وأن نعبر عنها بكل وضوح وحب وقوة, ولأن فاتحة الدستور هي تعبير دقيق عن حجم التطور والنمو والإصلاح في مصر, فإنها يجب أن تجمعنا في وفاق وطني وحوار خلاق يشمل كل القوي والأحزاب السياسية, وعلينا أن نجعل من الحوار والاتفاق علي صياغة المواد الجديدة حدثا مماثلا لحجم الإنجاز والتطور الذي تعيشه بلادنا ومسارا للوحدة والاتفاق. فالتغييرات الدستورية هي ترجمة لحجم انتصار الشعب في استرداد الأرض وحماية المقدسات والحفاظ علي الدور والمكانة في عالم متغير, وإقامة البنية الأساسية والمؤسسات الاقتصادية.
إننا اليوم نتقدم خطوة أكبر, عبر سيادة الشعب, إلي بنية جديدة, تحفظ بقاءنا وقوتنا, وتنظم حياتنا عن طريق إصلاح سياسي نستحقه ونفهم معناه, دون إنزلاق إلي الفوضي والانقسام, كما تكرس هذه الخطوة وعينا بالدولة الحديثة, التي تحترم المواطن وتمنحه الحرية التي يستحقها, وتكرس كل السلطات في خدمته, ولأننا مع رئيس صنع معنا كل انتصاراتنا الحقيقية في الحرب والسلام, وحفظ أرضنا في عالم ومنطقة تموج بالصراعات والحروب, لأسباب اقتصادية وسياسية ودينية وطائفية, فقد استطاع الحفاظ علي وطننا وأعطانا, عبر الحوار معنا, دستورا نستحقه.
ولم يكن حديث الرئيس مبارك يوم الثلاثاء الماضي حول التعديلات الدستورية وتدشين مرحلة جديدة من الحياة السياسية المصرية مفاجأة للذين عرفوا مبارك, واقتربوا من سياساته وأسلوب إدارته شئون الدولة منذ اليوم الأول الذي تولي فيه الحكم. فما جاء في الخطاب من تعديلات دستورية يضع مصر في لحظة تاريخية فارقة, تحصد فيها نتاج سنوات طويلة وشاقة من الإصلاح الاقتصادي, وتترجمه إلي آليات عمل تحكم مستقبل الحياة في هذا البلد.
وربما كان مهما أن نقف عند بعض ما ينطوي عليه ذلك الحدث من أهمية, فالكيفية التي ندرك بها مغزي الحدث تحدد لنا الطرق التي يتعين علينا السير فيها:
أولا: لم تكن نداءات الرئيس بتغيير الدستور في فبراير من العام الماضي وديسمبر الحالي استجابة لأي ضغوط مهما يكن مصدرها. فالتغييرات الهائلة التي جاء بها خطاب الرئيس الأخير تأتي في وقت تواري فيه الحديث عن الضغوط الخارجية, بل تعرضت تلك الضغوط للكثير من المراجعات في الدول التي كانت تمارسها, وهنا كان قرار مبارك بتعديل34 مادة من الدستور نابعا من رؤية مصرية خالصة تستند إلي واقع الحياة السياسية والاقتصادية المصرية.
ثانيا: إن الخطوة الهائلة التي أقدم عليها الرئيس يوم الثلاثاء الماضي, نتيجة طبيعية لمجمل التطورات السياسية والاقتصادية التي شهدتها الحياة المصرية علي مدي ربع القرن الماضي, وهي التطورات التي كانت ترجمة عملية لرؤية إصلاحية وليست ثورية, وقد عمل مبارك نفسه من أجلها طوال سنوات حكمه, والمتتبع لخطبه السياسية, طوال السنوات الماضية, يجد خطا فكريا متصلا فيها بين الواقع والسياسات, فلم يحدث أن جاءت سياسات الرئيس في غير توقيتها, أو في غير موضعها, ومن هنا تحرك النشاط السياسي والاقتصادي خطوات محسوبة إلي الأمام. وهكذا فإن ماجاء في خطابه الأخير يرتبط عضويا بكل ماتم إنجازه خلال ربع القرن الماضي.
ثالثا: إن مطالبة الرئيس بتعديل هذا العدد من مواد الدستور, بما يمثل إعادة هيكلة للنظام السياسي بأسره, تعبر عن حيوية واستعداد للقفز بالتطور خطوات أوسع وأسرع إلي الأمام لتحقيق آمال لم تعد مستويات الأداء الراهنة كافية لتحقيقها في ظل ظروف إقليمية ودولية مغايرة.
رابعا: إن الرئيس مبارك ألزم نفسه في برنامجه الانتخابي بما أعلن عنه في خطاب يوم الثلاثاء الماضي, وكان اختياره رئيسا للدولة في أول انتخابات رئاسية مصرية تعبيرا عن وعي جماهيري متنام بالظروف السياسية الراهنة والمستقبلية داخليا وخارجيا, وثقة برؤيته التي تمكنت من تذليل عقبات كثيرة, كانت في مطلع الثمانينيات تمثل كابوسا مخيفا في السياسة والاقتصاد والمكانة الإقليمية والعالمية لمصر.
…………………………………………………………………
لقد وضع مبارك مصر في تحد حقيقي وألزم كل مصري بمسئولياته بشأن الدستور الذي يمثل الإطار العام لمجمل حركة المصريين في السياسة والاقتصاد وفي غيرهما. ومازال برنامج الرئيس مبارك, بعد خمسة عشر شهرا من الإعلان عنه, يدفع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر خطوات ثابتة وراسخة إلي الأمام علي طريق شكك البعض فيه وفي قدرتنا علي السير عليه.. نعم بعد خمسة عشر شهرا من ذلك العهد الرئاسي غادرنا ما كنا نجادل فيه إلي ما أصبحنا نعايشه يقينا وواقعا ملموسا.
فنداء مبارك الذي دعا فيه المصريين إلي انتخاب رئيسهم لأول مرة في تاريخهم يتردد اليوم في جنبات مصر, داعيا إلي حوار وطني حول أكثر الأحداث أهمية في الحياة السياسية المصرية خلال نصف القرن الماضي. وقد هيأ مبارك الظروف والأوضاع لكي يصبح الأمل حقيقة ماثلة تجمع المصريين في حوار حول مستقبل حياتهم السياسية, ولكي يجنوا حصاد سنوات من التطور والنمو والحراك علي مختلف الأصعدة. والحقيقة هي أننا لن نتمكن من الحصاد إلا إذا شاركنا جميعا في ذلك الحوار الوطني, ولن تتحقق المشاركة إلا إذا أدركنا معني وأهمية ما دعا إليه الرئيس, وما تحمله تلك الدعوة من تأثيرات في حاضرنا, ومستقبل الأجيال القادمة. ولن نجني حصادا حقيقيا إلا إذا وضعنا مصلحة الوطن فوق كل المصالح الأخري وما أكثرها.
لقد حددت مقدمة الرئيس في التعديلات الدستورية خمس قضايا أساسية, تمثل جميعها نقاط الانطلاقة السياسية المصرية نحو عالم أكثر انفتاحا علي مقتضيات الحياة المعاصرة:
ولعل أبرز هذه القضايا قضية المواطنة, وهو المفهوم الذي غاب عن الدستور المصري بالرغم من أن المواطنة تظل أقوي الروابط التي تجمع بين المصريين, وأحد الشروط اللازمة لقيام الدولة واستقرارها, ونأمل في أن يكون الدستور بتعديلاته هو الحصن القوي المنيع لحقوق المواطنة, والملاذ الآمن لكل مصري أيا كانت ديانته أو طائفته أو عقيدته أو العرق الذي ينحدر منه. فلقد عرف المصريون التعايش السمح بين كل العناصر التي تكون منها المجتمع عبر القرون, ولكن الواقع الإقليمي من حولنا بات يهدد الغريزة التي مكنت هذا المجتمع من البقاء عبر القرون. ولم يعد كافيا أن نعتمد علي ذلك الشعور المصري التاريخي, بل أصبح من الضروري تحصينه في وثيقة الحياة السياسية والاجتماعية الأساسية وهي الدستور. ولابد أن نعي أهمية المواطنة في حياتنا المعاصرة من حيث إنها الرافد الأول للمشاعر الوطنية التي يحتاجها المجتمع في معارك البناء ومجابهة الأخطار.
القضية الثانية: تتعلق بالعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية, حيث نتجه اليوم نحو تعزيز دور البرلمان في مراقبة أداء السلطة التنفيذية, باعتباره ممثلا لجموع المصريين, وضابطا لأدائها, وحارسا علي مقدرات المجتمع, وتذهب التعديلات الجديدة إلي تقليص بعض صلاحيات رئيس الجمهورية, وتوسيع مشاركة مجلس الوزراء في رسم السياسات العامة, ومثل هذه التعديلات تقترب بنا كثيرا من النظم الديمقراطية الحديثة, وتخفف تركيز السلطات الذي قد يضر في النهاية بالمصالح العامة للمجتمع.
القضية الثالثة: تتعلق بالأحزاب السياسية وتفعيل دورها في تطوير الحياة السياسية المصرية. فاختيار النظام الانتخابي الأمثل, الذي يصبح مع التعديلات الدستورية الجديدة أحد اختصاصات السلطة التشريعية, يعزز فرص التمثيل الحقيقي للقوي السياسية المختلفة, وهو تغيير يلقي بمسئوليات كثيرة علي عاتق الأحزاب التي ينبغي عليها المشاركة الفعالة في حياتنا السياسية, والوصول ببرامجها إلي القواعد الشعبية لضمان المزيد من المشاركة السياسية. كما أن التعديلات الجديدة تضع الانتخابات تحت الإشراف القضائي مع مشاركة فئات أخري قادرة علي إدارة العملية الانتخابية. وهذا التعديل يقلل العبء علي السلطة القضائية, ويزيد من فرص فئات أخري لديها القدرة أيضا علي متابعة العملية الانتخابية وحمايتها والحفاظ علي نزاهتها.
القضية الرابعة: تتعلق بالإرهاب الأسود الذي فرض علينا العمل بقانون الطوارئ فترة ليست قصيرة. فالدساتير المصرية السابقة لم تعن بتحصين المجتمع ضد الإرهاب الذي لم يكن قد أطل بوجهه القبيح علي النحو الذي نعايشه الآن. ولم يكن هناك مفر من مواجهة أخطار الإرهاب بقانون الطوارئ, ومع التعديلات الجديدة سوف يظهر قانون جديد للتعامل مع الإرهاب, سيكون بديلا لقانون الطوارئ. والحقيقة أن التعديلات الجديدة لم تقترب من حقوق المواطن المصري المنصوص عليها في دستور عام1971, والتي شهد فقهاء القانون الدستوري بمكانتها وقدرتها علي حماية جميع الحقوق, فكانت معادلة بالغة الأهمية أن نحفظ الحريات العامة والشخصية بنصوص الدستور, في الوقت الذي نواجه فيه الإرهاب بقانون يمكننا من التعامل معه باعتباره الخطر الأسود.
القضية الخامسة: تتعلق بالتناقضات التي ظهرت نتيجة التطورات التي طرأت علي الحياة المصرية, وتجاوزت بها نصوص دستور71, ومن هذه التناقضات ما يتعلق بأساس النظام الاقتصادي للدولة, وتكرار مفاهيم النظرية الاشتراكية في العديد من النصوص الدستورية. ولقد أصبح من الضروري تحقيق الملاءمة بين النصوص الدستورية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تمثل خيارا للمصريين الآن.
وحول هذه القضايا وغيرها سوف تدور حوارات طويلة تتطلب مشاركة فعالة من كل قطاعات المجتمع فالتعديلات الدستورية المنتظرة سوف تمس كل فرد في هذا المجتمع.ومن المهم أن يستشعر الجميع أهمية ما نحن بصدده الآن. ولن يكون في مصلحة مصر أن تختطف جماعات دون غيرها الحوار حول التعديلات الدستورية.
لقد أصبح الدستور من العبارات التي تجري علي ألسنة الجميع, ولابد أن نحتفظ بقوة الدفع التي تولدت لديهم. ومن الضروري أن تعبر كل هذه الحوارات عن المصلحة العامة, وأن تتسم إدارة التعديلات الدستورية بمستوي من الحوار يليق بأهميته.
إن أمامنا مهمة كبري لم ينسها الرئيس مبارك وهو يقدم التعديلات الدستورية, وهي تحويل هذه التعديلات إلي ثقافة وممارسة علي أرض الواقع لتشجيع الجميع علي المشاركة, والعمل من أجل تغيير شكل الحياة في مصر, ودفعها إلي الأفضل, عبر ديمقراطية مصرية صنعناها بممارستنا وقدرتنا علي العمل والتغيير والتحول نحو الأفضل.
osaraya@ahram.org.eg