الموقف المصري .. وجولات الرئيس الخارجية

لم يكن من قبيل المصادفة أو المجاملة أن يصف الأوروبيون مصر بأنها نموذج لسياسة الاعتدال, وأنها ضابط الإيقاع في المنطقة. فتلك حقيقة يؤكدها العمل السياسي والجهد الدبلوماسي المصري, عبر سنوات تعرضت فيها المنطقة من حولنا لأزمات متتالية كانت تنذر العالم في كل مرة بعواقب وخيمة. فلقد اختارت مصر في إدارة تلك الأزمة موقفا عقلانيا, يبحث عن الأمن والاستقرار, وليس عن شعبية وبطولة تتستر وراء شعارات لم يبق منها في الوجدان العربي إلا القليل, أو إعادة إنتاج آليات قديمة زرعت الفرقة بين العرب, وأنهكت قدرات مصر, وعطلت خطط التنمية فيها.ولقد أدرك المجتمع الدولي في الرئيس حسني مبارك ما لم يستطع دعاة المسيرات والهتافات في العالم العربي أن يدركوه. وعرف في مصر موقفا نزيها وأمينا وعقلانيا, كفيلا ـ بفهمه العميق للمنطقة ـ أن يختصر المسافات نحو الحلول. فلقد توالت دعوات الرئيس قبل أن تقع الكارثة في العراق, وقبل أن يستفحل الإرهاب ليضرب عددا من العواصم والمدن الأوروبية والأمريكية, ويصبح محورا لحرب شاملة تهدد الجميع في الشرق والغرب علي السواء, وقبل أن يطل الخطر النووي في المنطقة, ليضيف تهديدا جديدا لأمنها واستقرارها. واليوم يدرك المجتمع الدولي بعد النظرة المصرية وشموليتها, وجدارتها بالاهتمام. ولذلك كان الحرص علي التشاور الدائم مع مصر الحريصة أيضا علي التشاور مع الجميع. وهذا النهج المصري في التعامل مع قضايا المنطقة, جعل الحوار المستمر ضرورة, والتشاور فريضة, بهدف دفع الأطراف الإقليمية والدولية نحو صياغات وأهداف أقل انفعالا, وأكثر اقترابا من مصالح الشعوب, التي تدفع في الغالب الثمن الحقيقي للمغامرات السياسية والقرارات غير المحسوبة. فمما لا شك فيه أن المنطقة التي قدر لنا أن نحتل فيها موقعا جغرافيا وسياسيا وتاريخيا وحضاريا مركزيا, تختلف عن كثير من مناطق العالم الأخري. وفيها صورة أو أخري من أسباب كل الصراعات والخلافات في العالم, حتي أصبحت تلك الأسباب متشابكة, وشديدة التعقيد, بالتاريخ والجغرافيا, والاقتصاد, والموارد والتركيبة السكانية. وكانت سنوات التحول والتحرر, قبل عقود مضت, تفرض أحلاما وآمالا علي شعوب المنطقة لتخفي كثيرا من المشكلات. وكان صراع القوتين العظميين يفرد مساحات للمناورة السياسية من جانب اللاعبين الإقليميين. والآن تغير كل شئ في المنطقة, ولم تبق سوي المشكلات التي لم تفلح الشعارات في تسويتها, أو حتي في التخفيف من حدتها. ولم يبق أمامنا سوي المواجهة الحقيقية الواقعية, وهي مواجهة كانت ومازالت تتطلب النظر بعين العقل في أرض الواقع. وكان هذا هو اختيار الرئيس مبارك في معالجاته قضايا المنطقة المتأزمة. ولم يكن هذا الاختيار يروق للبعض في المنطقة العربية, ممن اعتادوا استثمار مزايا أحلام البسطاء في الشارع السياسي العربي وما أكثرهم. كما أنه لم يكن يروق أيضا, للذين بنوا مجدهم الزائف وثرواتهم الطائلة من تجارة الشعارات وتجييش المشاعر وتسييد عقلية القطيع. والحقيقة أن المتابع للساحة السياسية العربية علي مدي العقدين الماضيين, يلحظ بوضوح تغيرا يتسع نطاقه شيئا فشيئا, متجها صوب العقلانية المصرية في التعامل مع القضايا العربية والإقليمية, حيث كانت رؤية الرئيس مبارك في بداياتها صادمة لشارع سياسي, اعتاد المسيرات والحشود والهتافات, ولكن الأحداث أثبتت للجميع أن الدنيا من حولنا تتغير, وأن القوي المناصرة للحشود والهتافات قد طواها الزمن, ولم يبق غير الواقع الذي يملي إرادته علي الجميع, والواقع هنا لايعني الخضوع لإرادة قوة أو أخري, ولكنه يعني أن هناك حلولا ناجعة, وقدرات كامنة لابد من تفجيرها, ومساحات من العمل علينا استثمارها, وأطرافا متعددة يمكن أن تدعم إرادتنا في التعامل مع الواقع المحيط. فلقد أدرك مبارك, في وقت مبكر, أن البحث عن حلول لمشكلات المنطقة لابد أن يشمل أطرافا متعددة, يمكن بحكم الجوار والمصالح السياسية والاقتصادية أن تقدم الكثير من الدعم المباشر وغير المباشر لجهود إحلال السلام, والتخفيف من الأزمات القائمة والمحتملة. وفي هذا الإطار كان الرئيس مبارك قد أعطي جزءا من اهتماماته لرحلات مضنية وشاقة إلي الشرق والغرب, من أجل أن يمارس ذل وهكذا, وبعد أقل من شهر من جولته في روسيا والصين وكازاخستان, عادت طائرة الرئيس لتعبر البحر المتوسط للمرة الثالثة في جولة أوروبية, تضم هذه المرة أيرلندا وفرنسا وألمانيا في مسعي لم يتوقف لحشد التأييد الأوروبي لجهود إحلال السلام, وتفكيك الأزمات الخانقة في السودان والعراق ولبنان, وكذلك تداعيات الصراع الإيراني ـ الدولي. وبطبيعة الحال, فإن هذه الجولة سوف تفتح آفاقا جديدة لمناقشات سابقة حول التعاون الثنائي بين مصر والدول التي تشملها هذه الجولة, بما يحقق طموحات البرنامج المصري للتنمية. | ||
واختار الرئيس أيرلندا في المحطة الأولي لجولته, وهو اختيار له مغزاه من جانبين: أولهما : القدرات الأيرلندية في دعم الاقتصاد المصري والمبادلات التجارية بين البلدين, وما تمثله تجربتها من أهمية لمصر, وهي تستكمل تحولها الاقتصادي. فأيرلندا مرشحة لأن تكون واحدة من القوي الاقتصادية الكبري في أوروبا. وهي مكانة تقترب منها بخطوات واسعة من الإصلاح والنمو الاقتصادي, بما يمكن أن يفيد مصر في المرحلة الراهنة. فحتي وقت قريب لم تكن أيرلندا سوي دولة زراعية صغيرة لاتتجاوز مساحتها70.000 كيلو متر مربع وتعاني أجواء التوتر والتناحر بين جارتيها إنجلترا وأيرلندا الشمالية. ومع عودة الهدوء والاستقرار السياسي, انطلقت إلي آفاق جديدة تحولت فيها من دولة تعتمد علي الزراعة إلي دولة صناعية تمثل الصناعة فيها38% من ناتجها الإجمالي, وتستوعب نحو38% من القوة العاملة وتمثل80% من إجمالي الصادرات. وتمكنت بنموها الاقتصادي من أن تحقق رابع أعلي دخل للفرد في العالم بمتوسط قدره40.000 دولار سنويا. كما تمثل صناعة البرمجيات فيها أهم الصناعات, وقد أصبحت الآن أكبر مصدر للبرامج والخدمات المرتبطة بها في العالم.والجانب المثير في التجربة الأيرلندية هو الاهتمام بالصناعات الصغيرة والمتوسطة, التي مكنتها من التحول بالاقتصاد الزراعي إلي اقتصاد صناعي وتكنولوجي. وهي تجربة مفيدة لنا في مصر في ظل توجه قائم لتشجيع هذا المستوي من الصناعة.ومن الضروري مرة أخري أن يستثمر رجال الصناعة في مصر نتائج زيارة الرئيس مبارك علي الوجه الذي يمكننا من تحقيق فائدة حقيقية من تجربة دولة واجهت صعوبات شبيهة بما نواجهه, ولديها طموحات شبيهة بما لدينا. فزيارة الرئيس تفتح الباب وتمهد الطريق أمام الجميع, وهي فرصة لابد أن تحظي بالاهتمام من رجال الأعمال والتشجيع من الحكومة. وفي تصريحاته إلي رؤساء تحرير الصحف, في الطريق إلي أيرلندا, كشف الرئيس مبارك عن إحدي ثمار زيارته القريبة لكازاخستان ومحادثاته في شرم الشيخ مع رئيسها. فلقد تم الاتفاق علي استيراد750 ألف طن من القمح بسعر يقل عن السعر العالمي, فضلا عن مستوي جودة القمح المنتج في هذه الأراضي. ولذلك يتعين السعي نحو المزيد من الاستثمار لهذه الزيارات التي يقوم بها الرئيس. ففي أيرلندا تجربة غنية في الزراعة والإنتاج الحيواني, يمكن أن تفيدنا كثيرا في دعم قدرات هذين القطاعين في مصر. ثانيهما : أن لدي أيرلندا تفهما واضحا لطبيعة الصراع في الشرق الأوسط, وهو ماعكسته مواقف الدولة وتصريحات مسئوليها, حيث ظهرت القضايا العربية في الخطاب السياسي الأيرلندي, الذي يطالب بحل عادل وشامل ودائم للقضية الفلسطينية. وهي تعد من أكثر الدول المؤيدة لقيام دولتين فلسطينية وإسرائيلية.وطالب وزير خارجيتها إسرائيل, بصراحة ووضوح, بأن تتوقف عن بناء المستوطنات والاستيلاء علي الأراض, كما أعلن تأييد بلاده للرئيس الفلسطيني في تشكيل الحكومة, وطالب بأن يكون الأوروبيون أكثر سخاء مع الشعب الفلسطيني, ودعمه ماديا. ويمكن أن تدعم عضوية أيرلندا في الاتحاد الأوروبي التوجه الحذر لدي بعض الأطراف الأوروبية فيمايتعلق بالقضية الفلسطينية. ومن هنا, ومن أجل دعم هذا الصوت المعتدل نحو قضايا المنطقة في الاتحاد الأوروبي, تأتي زيارة الرئيس مبارك إلي أيرلندا للمرة الأولي في تاريخ العلاقات بين البلدين. إن تلك الزيارات المتكررة للرئيس لأوروبا تدعم كثيرا الموقف المصري من القضايا العربية, وتتيح المزيد من الفرص للاقتصاد المصري في التعاون مع اقتصادات كبري, وهو تعاون يساعدنا علي تحقيق الكثير من طموحاتنا. | ||