حصاد رحلة رئاسية نحن والشرق الأقصي

في روسيا والصين وكازاخستان تاريخ طويل وميراث ثقافي عريض, وتنوع عرقي وبقايا عصور قديمة وحديثة, وشواهد علي أيديولوجيات تطورت ثم تحولت أو اندثرت, واختلافات كثيرة, وأيضا ظواهر عديدة مماثلة لما نحن فيه. ولكن الذي يجمع بينها اليوم هو تحدي الواقع المعاصر بكل تعقيداته, وآمال عريضة تبقي الخلاف والاختلاف في دائرة البناء والتطور, والتقدم نحو أهداف أصبحت عقيدة لكل فرد ولكل مجتمع, فلقد انعقدت إرادة الجميع علي الخروج من ضيق العوز إلي رحابة الكفاية, والتطلع الحثيث إلي الأسواق العالمية حيث الفرص الحقيقية للريادة والنمو والسيادة في عالم لايعترف إلا بشريعة الأقوياء. لقد كانت زيارة الرئيس حسني مبارك إلي هذه الدول بالغة الأهمية في ظل التطورات السياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط من ناحية, والقفزات الاقتصادية التي تتحقق في هذه الدول والتي تتيح للبرنامج الاقتصادي المصري العديد من الفرص الثمينة من ناحية أخري. وما أسفرت عنه زيارة الرئيس للدول الثلاث يلقي بأعباء علي جميع المؤسسات الاقتصادية والصناعية المصرية في تطوير أساليب اغتنام الفرص التي أصبحت بعد زيارة الرئيس متاحة ومفيدة لكل القطاعات. لقد حظي الرئيس مبارك في رحلته إلي الصين ومن بعدها كازاخستان بتقدير واحترام ملحوظين, ورغبة قوية في توثيق التعاون الاقتصادي, إدراكا من الدولتين لقدراتنا التي مازلنا نحن هنا في مصر منكرين لها. والحقيقة أن الفرص التي تتيحها زيارة الرئيس أمام الاقتصاد المصري لاتنتمي لفرص العصر القديم التي كان نصيبنا من الجهد فيها لايتعدي المناورة واللعب علي التناقضات بين القوي الكبري في عالم الماضي للحصول علي السلاح والمساعدات الاقتصادية والقروض الميسرة. فالفرص المتاحة الآن لها شروط مسبقة حيث أصبحت الآلية الحاكمة هي آلية السوق الحرة وقوانين العرض والطلب. وقد تراجع دور الحكومات في الدفع بالتعاون الاقتصادي إلي الأمام, وحل محلها مستثمرون راغبون في تحقيق الربح يجذبهم مناخ استثمار ملائم. وفي هذا الصدد لن يجدي كثيرا الحديث عن الروابط التاريخية والثقافية إلا بدعم من آليات السوق الحاكمة الآن, ولن يأتي السياح من روسيا والصين وغيرهما بأوامر حكومية, وإنما تجتذبهم الخدمات والأسعار وحسن المعاملة. وباختصار فإن رأس المال الذي نبحث عنه سوف يذهب حيث يريد, ويبقي حيث يلقي معاملة جيدة, وقد قطعنا خطوات جيدة إلي الأمام في تحسين ظروف الاستثمار, وإيجاد مناخ جاذب لرؤوس الأموال, ولكن هذه الخطوات مازالت دون طموحاتنا ودون طموحات الراغبين في الاستثمار في مصر, ودون مستوي الفرص التي أتاحتها زيارة الرئيس لموسكو وبكين وكازاخستان. …………………………………………………………….. | |
ولم يندب الصينيون حظهم يوما, إذا أقدمت الحكومة علي بيع أحد مصانع القطاع العام لمستثمر صيني قادم من الجاليات الصينية المنتشرة علي طول السواحل الآسيوية الشرقية, أو لأي مستثمر أجنبي قادر علي التحديث والتطوير والإنتاج واستقدام أحدث تكنولوجيا العصر وتطوير المهارات البشرية وفق المواصفات العالمية. فلقد كان القطاع العام الصيني مسيطرا علي أكثر من80% من الناتج الصناعي للبلاد عام1980 والآن تراجعت نسبته إلي نحو45% ومازال دوره يتراجع في الدولة الشيوعية في الوقت الذي تتجه فيه الصناعات الصينية نحو الغزو الفعلي لمختلف أسواق العالم بما فيها الأسواق الأمريكية, حيث حققت الصين فائضا في ميزانها التجاري مع القوة الاقتصادية العظمي في العالم قدره85 مليار دولار. وكانت زيارة الرئيس فرصة أمام الجميع ـ وزراء ومسئولين ومستثمرين ـ لأن يتحدثوا ويستمعوا إلي تجارب جيدة, ويتعرفوا علي فرص متاحة للذين يستحقونها. فلقد مهدت الطريق أمام الجميع لارتياد تلك الأسواق والتعرف علي مقوماتها والمزايا التي تتيحها. كما وفرت دعما سياسيا لكل الجهود المنتظرة لأن ترتبط مصر بتجارب تلك الدول وتفيد وتستفيد منها. وأتاحت الفرص للتعرف علي كيفية تحقيق الإجماع الواعي بين الشعوب علي الأهداف العليا للوطن دون أن تمتد إليها الخلافات والاختلافات, وأيضا وضع القضايا الجادة والحيوية في مقدمة أولويات الأجندة الوطنية للشعوب. إن الأحاديث الكثيرة مع الصينيين الذين التقيتهم تنظر بتفاؤل واهتمام إلي المستقبل الذي يصنعونه اليوم. فهم يتحدثون في الصناعة والاقتصاد والزراعة والتكنولوجيا والأسواق الخارجية والصادرات ومستويات المعيشة لهم وللأجيال المقبلة, ولم نجد علي أجندة المواطن الصيني في أحاديثه اليومية مثل تلك القضايا التي تشغلنا في مجالسنا اليومية, علي الرغم من أن الفقر مازال يحيط بأعداد غفيرة منهم, ولديهم مثل ما لدينا من مشكلات. وهذه الدولة التي كانت تتطلع إلي دعم علاقاتها مع العالم العربي خاصة مصر, بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي, لديها الكثير من الإمكانات والقدرات التي تعتبر زيارة الرئيس بداية لاستثمارها بما يحقق مصلحة البلدين. وعلي الرغم من الجهود التي يبذلها صندوق التعاون الفني مع دول الكومنولث, ومنها كازاخستان لتشجيع رجال الأعمال المصريين علي الانتباه لما هو متاح من فرص اقتصادية, فإن العلاقات الاقتصادية بين البلدين ظلت دون المستوي المطلوب. فهناك سوق عمل متنامية قادرة علي استيعاب الكثير من العمالة المصرية بعد أن ضاقت فرص العمل في منطقة الخليج. وحينما سألت الرئيس نزار باييف عن ذلك رحب بالعمالة المصرية التي اسهمت في بناء منطقة الخليج, ولاشك أن فتح اسواق كازاخستان أمام العمالة المصرية يحتاج منا إلي رؤية جديدة في تصدير العمالة وتأهيلها وتدريبها, وتنظيم سبل العمل لها في تلك الأراضي الواعدة, فهذه السوق الجديدة بحاجة إلي عمالة بمواصفات معينة, خاصة أن حولها أسواقا مصدرة للعمالة أكثر تنظيما. ولكن غطرسة القوة غلبت أصوات الحكمة, لتدفع المنطقة إلي حالتها الراهنة بكل ما تمثله من اعباء علي برامج التنمية وطموحات شعوب المنطقة وشعورها بالأمن والاستقرار. علي أن محادثات الرئيس مع تلك القوي الناهضة لاتعني استبعاد القوي الغربية, وفي المقدمة منها الولايات المتحدة, وإنما تعني استشراف الدور الذي يمكن أن تقوم به تلك القوي, التي يقع الشرق الأوسط علي حدودها القريبة وإمكانات التنسيق بينها وبين مصر باعتبارها قوة إقليمية ولاعبا رئيسيا في تفاعلات الأحداث في المنطقة.فالقوة الاقتصادية المتنامية سوف تمكن الصين قريبا من توسيع دورها السياسي عالميا لتصبح قوة كبري قادرة علي ممارسة نفوذ حقيقي في العلاقات الدولية. وتكاد روسيا تتعافي من أوجاعها التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي بما يعني أنها اليوم أقرب إلي ممارسة دور أكثر فاعلية من ذي قبل. لقد جاءت زيارة الرئيس إلي الدول الثلاث بعشرات الاتفاقيات, ويبقي أن تضيف هذه الاتفاقيات إلي جهودنا في كل المجالات فرصا ومنافع وقوة, تدفع بنا صوب أهدافنا التي نسعي من أجلها, وهذه مسئولية تتحملها الحكومة ورجال الأعمال, فاستغلال الفرص لايقل عن إتاحتها, وهذا هو التحدي الذي نواجهه اليوم. | |