الطاقة النووية.. والمهاترات السياسية

في أي نظام ديمقراطي في العالم لابد أن يكون هناك قدر ما من الإجماع علي بعض المفاهيم والسياسات الأساسية التي توجه الخلاف والاختلاف, والتنوع الناتج عن الممارسة الديمقراطية, وهذه ضرورة حيوية تعمل بها كل الديمقراطيات الحديثة والقديمة معا, أما نحن في مصر فقد علمتنا الديمقراطية أن نقضي علي أي إجماع من أي نوع, بعد أن فهمناها في إطار المناورات والتربص بكل فكرة وطموح وعمل جاد. ولعل أكثر الأمثلة وضوحا علي ذلك هو الجدل الغريب الذي نشأ عقب الإعلان عن حلم راود خيال المصريين طويلا, وضرورة فرضتها التطورات المتلاحقة في الاقتصاد والطاقة, عندما قرر الرئيس حسني مبارك أن تدخل مصر عصر توليد الطاقة النووية تعبيرا عن رؤية جديدة لعصر جديد, أصبحت فيه الطاقة النووية مسألة حاسمة في دولة طامحة لنمو اقتصادي, حيث يئن اقتصادها من تكلفة مصادر الطاقة التقليدية المتزايدة بعد أن بلغ دعم المنتجات البترولية42 مليار جنيه. لقد جاء القرار السياسي بدخول عصر الطاقة النووية تحريرا للاقتصاد المصري من قيوده وتحريرا للعقل المصري من مخاوفه, وتأكيدا لثقة المصريين بقدراتهم علي ملاحقة التطورات العالمية في هذا العصر, وتدشينا لمشروع قومي يستجمع طاقات المصريين ويوجهها نحو هدف بات محتما ولا يقبل التأجيل, وكان كلام الرئيس مبارك واضحا لايقبل التأويل, ويبعد عن الخلط بين استخدام الطاقة النووية لأغراض تنموية سلمية, وبين دخول عصر الطاقة النووية لأغراض عسكرية. فالرئيس مبارك الذي طرح عالميا مبادرة إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل, وقاد, بغير كلل أو ملل, جهود إحلال السلام في المنطقة والذي يعرف, قبل غيره بخبرته العسكرية والسياسية, أن الخيار النووي لم يعد صالحا لحسم الصراع في أي صدام عسكري, ولايمكن أن يدعو إلي إذكاء روح السباق المهلك نحو التسلح النووي في منطقة تشتد حاجتها للسلام. فقبل عشرين عاما كان قرار وقف العمل في المفاعل النووي المصري نابعا من حقائق الموقف آنذاك, حيث كانت معدلات الأمان النووي أقل من أن تشجع علي المضي في هذا الطريق, وكانت مصادر الطاقة التقليدية زهيدة التكلفة في مقابل أخطار المفاعلات النووية. واليوم جاء القرار السياسي متوافقا مع معطيات الواقع الجديد, فلقد زادت معدلات الأمان في توليد الطاقة النووية وأصبح تنويع مصادر الطاقة ضرورة حتمية لايمكن تجاوزهابعد أن دخلت معدلات استهلاك الطاقة في مصر, والتوقعات بشأنها في المستقبل دائرة الخطر. والحقيقة التي لاتقبل الجدل هي أن القرار السياسي في الحالتين, وبشأن قضية لها أهميتها ومخاطرها في الداخل والخارج, لايمكن أن يصدر بغير دراسات متأنية وبغير معرفة دقيقة بحقائق الموقف قبل عشرين عاما, ومستجدات الواقع الآن. إن قرار الرئيس يفتح أبوابا جديدة لمستقبل الأجيال المقبلة, ويؤكد حقوقها التي تجاهلناها طويلا, بعد أن بات مؤكدا أن ما لدينا من مصادر للطاقة التقليدية لن يكفينا أكثر من ثلاثين عاما مقبلة. بل إن جهودنا من أجل التنمية في المستقبل مهددة في ظل شح مصادر الطاقة المتاحة. ففي العالم اليوم أصبحت الطاقة النووية هي المحرك الرئيسي للتنمية الصناعية والإنتاجية, ولذلك أصبحت شرطا لازما للتنمية في المستقبل. ولقد طرحت أمانة السياسات, في المؤتمر الأخير للحزب الوطني, ورقة بحثية تكون قاعدة لنقاش جاد ومخلص حول مصادر الطاقة الحالية والبديلة في الحاضر والمستقبل, وهذه الورقة تعد وثيقة شديدة الوضوح بما فيها من تحليل وأرقام ترصد الواقع وتضع الحلول. ففي المحور الأول أكدت حق الأجيال المقبلة في الحصول علي الطاقة, وحذرت من استمرار معدلات الاستهلاك الحالية دون البحث عن مصادر بديلة لتأمين حقوق تلك الأجيال. حيث إنه مقابل استهلاك برميلين من البترول تتم إضافة برميل واحد من الاكتشافات الجديدة في العالم, ثم طرحت الوثيقة آفاق المصادر البديلة للطاقة بما فيها الطاقة النووية والشمسية والرياح وكشفت عن مزايا وعيوب كل منها. وفي المحور الثاني تطرقت وثيقة أمانة السياسات إلي قضية دعم المنتجات البترولية, وما تمثله من عبء علي الاقتصاد الوطني في ظل استمرار الاعتماد علي الطاقة التقليدية. ففي عام1998 كانت الخزانة العامة تتحمل1.2 مليار جنيه وفي غضون سبع سنوات ارتفع الرقم إلي43 مليار جنيه, وهو ما يعادل خمسة أضعاف ما ينفق علي الصحة وسبعة أضعاف ما ينفق علي التعليم. وكشفت بالأرقام والمقارنات أن مصر هي أكثر دول العالم دعما للمنتجات البترولية, وأن استمرار هذا الدعم يهدد قدراتنا الاقتصادية علي مواصلة معدلات التنمية بالشكل الذي نعمل من أجله. وفي هذا المحور من محاور الورقة كانت هناك نظرة مستقبلية لأوضاع الطاقة في مصر. | |
احذروا أصوات المنسحبين من أي عرس مصري قومي وقد كان من المتوقع أن تحظي التحليلات والأرقام والتوقعات, التي جاءت بها تلك الوثيقة باهتمام يعادل أهمية ما تتحدث عنه وما تهدف إليه من وضع حلول آمنة لحاضرنا ومستقبلنا. وحظيت هذه الورقة بالاهتمام اللازم في مناقشات مؤتمر الحزب الوطني. أما الذين اعتادوا الصراخ الديمقراطي فقد كان لهم موقف آخر, وكان جمال مبارك ـ وهو أمين لجنة السياسات التي أشرفت علي هذه الدراسات ـ هو الذي أعلن عن ذلك المشروع القومي. أما رفقاء الحوار الديمقراطي فقد فعلوا مثلما يقول الصينيون’ حينما يشير إصبع إلي القمر فإن غير الأذكياء وحدهم هم الذين ينظرون إلي الإصبع’ فلقد ترك رفاق الديمقراطية كل شيء قاله جمال مبارك حول الأخطار الراهنة وحقوق الأجيال المقبلة والعبء الذي يئن منه الاقتصاد المصري, وحتمية البحث عن حل, وذهبوا في الطريق نفسه الذي يهيلون فيه التراب علي كل إنجاز ومشروع يحقق لمصر املا في مستقبل واعد. فقفزت الأوهام فوق السطور, وراحت بعض الأصوات عبر الفضائيات تختزل كل شيء في قضية التوريث التي سكنت عقولهم زمنا, وعطلت فكرهم عن أن يضيف لمسيرة البناء والتنمية والديمقراطية رؤي جديدة, تثري حوارنا حول المستقبل. ولم يدرك هؤلاء أن البحث عن شعبية لايمكن أن يكون عبر قضية بالغة الأهمية والحيوية والتعقيد, فضلا عن أنها لاتتأتي بين يوم وليلة, فالمشروع الذي تحدث عنه جمال مبارك طويل الأمد, وسوف تجني الأجيال المقبلة ثماره وتنعم بنتائجه.. وهو مشروع بالغ التعقيد اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا وسياسيا أيضا.. والحقيقة أن المشروعات طويلة الأمد ليست مما يحقق الشعبية, وإنما تكشف عن رؤية وفكر وتستنهض همما لمشوار طويل بدأناه. ولقد كتبت من قبل أن مثل هذا المسلك في الحوار بين الشركاء الديمقراطيين سوف يبعد الشقة بينهم ويصم الآذان عن أن تسمع ما يقال لمصلحة الوطن الذي يسعنا جميعا. لقد كان هذا المشروع أولي بالإجماع الوطني ونادينا طويلا بذلك, لكن رفاق الديمقراطية لم يشاءوا أن ينسحبوا من عرس مصري قومي أعلنه الرئيس مبارك فحسب, ولكنهم أيضا يريدون اغتيال فرحتنا به ويشيعون اليأس بشأنه ويصرفون أنظارنا عنه علي أوهام لم يكفوا عن ترديدها بمناسبة وبغير مناسبة. ومثلما فشلوا فيما ذهبوا إليه من قبل, فإن الفشل ينتظر مساعيهم هذه المرة أيضا, فلقد تفجرت آمال وأحلام وطموحات, والتف المصريون كعادتهم وراء كل عمل جاد, وسوف تبدأ قريبا مراحل التنفيذ لتشهد أن في مصر عقولا وجهودا تفكر وتعمل من أجل مستقبل أفضل. واليكم تحديات هذا المشروع الحلم التي يجب أن ننتبه إليها جميعا: أولا: استجماع قدرات المصريين العلمية والفكرية اللازمة لوضع المشروع موضع التنفيذ. فقد هاجرت عقول مصرية كثيرة إلي خارج البلاد بعد أن كان المشروع قد توقف, والعالم يعرف ان مصر غنية بعقولها المنتشرة في كل أنحاء العالم, ولابد من تشجيع هؤلاء علي العودة إلي الوطن واستئناف جهودهم في هذا المشروع العملاق. وعلينا أن ندرك أن عودة هذه العقول لن تتحقق إلا بتوفير مؤسسات قادرة علي استيعاب طاقات علمائنا وخبرائنا المهاجرين وتوفير ظروف الإبداع والبحث, ولابد من إعادة توظيف ما لدينا من علماء وباحثين في هذا المجال وإعادة تنظيم المؤسسات التي جمدت أو توقفت. ثانيا: توفير التمويل اللازم لإنشاء المفاعلات النووية وهي مهمة ليست سهلة في ظل المشكلات الاقتصادية الراهنة. ومن المؤكد أن هناك بدائل كثيرة يتعين البحث فيها واختيار الأفضل منها. ورجال الأعمال والصناعة مدعوون اليوم إلي المشاركة في التمويل علي أسس اقتصادية ووطنية. ثالثا: إدارة الحوار حول استخدام الطاقة النووية مع العالم الخارجي. فالجميع يعلم أن هناك الكثيرين المتربصين بنا, وتزداد شهية هؤلاء للعمل ضد هذا المشروع وإثارة الغبار حوله وممارسة كل الضغوط لكيلا تدخل مصر عصر الطاقة النووية بخلط متعمد للأوراق. مع أن لمصر تاريخا مشهودا في احترام القوانين والمواثيق الدولية, وكانت من أولي الدول التي وقعت اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية عام1968. وفي ظل الظروف والأوضاع العالمية أقول إن إدارة الحوار دوليا تنطوي علي صعوبات ومشكلات نحتاج إلي تجاوزها, وقد أثبتت عقولنا الفنية والقانونية وخبراتنا المختلفة في أكثر من معركة قدرتها علي التعامل مع مختلف المحافل الدولية والمؤسسات, بل إن أبناءنا هم الذين يقودون أهم مؤسسات الطاقة الذرية حول العالم, فلمصر ولأبنائها السبق والتقدم في هذا المجال. ونحن نستحق أن ندخل هذا العصر منذ عقود وقد حان الوقت لذلك, ولن نتخاذل أو نتردد عن المضي فيه, ولن يعوقنا صوت هنا وآخر هناك, ولكن ينبغي أن ندرك جيدا أن التحديات تفرض علينا الإجماع, وبناء موقف صلب يدعم متخذي القرار في إدارة العقبات التي تكتنف مساعي التنفيذ. | |