مقالات الأهرام اليومى

وقفة مصر‏..‏ مع لبنان

جمال مبارك – انس الفقى – رشيد محمد رشيد – حاتم الجبالى

كان طبيعيا أن تتجه الأنظار العربية إلي مصر‏,‏ عندما بدأت ثم اشتدت حلقات القتال والدمار في لبنان‏,‏ وكان طبيعيا أيضا أن يتنادي اللبنانيون بشقيقتهم العربية الكبري‏.‏ وأن تخرج بعض الصرخات من أفواه المهجرين تحت القصف والجرحي والأرامل والثكالي والأيتام‏.‏ فلقد مضي شبح الموت يقطف الرؤوس دون تمييز‏,‏ وإذا كنا في مصر نتقبل صرخات المكلومين تحت القصف‏,‏ إلا أننا لانقبل نعيق أولئك الذين أرادوها فرصة للمزايدة علي مصر وموقفها‏..‏ وهكذا انطلق الموقف المصري من رؤية واضحة وتعامل عقلاني مع الواقع السياسي والعسكري إقليميا وعالميا‏.‏ وقد تحدد هذا الموقف في دعم الحكومة اللبنانية ومساندتها وبذل كل المساعي للتوصل إلي وقف فوري للعمليات العسكرية ومحاصرة القتال حتي لا تنتشر الفوضي والاضطراب في المنطقة بأسرها‏.‏

ومن هنا تحركت مصر سياسيا ودبلوماسيا في كل المحافل الدولية‏,‏ وتحركت الطائرات المصرية في جسر جوي ليخفف عن معاناة اللبنانيين‏,‏ واستطاعت تلك الطائرات العسكرية أن تكسر الحصار المفروض علي اللبنانيين‏,‏ وأن تصل بالمساعدة والعلاج لهم تحت القصف والحصار جوا‏,‏ واليوم تكسره بحرا حيث تصل أول سفينة مصرية إلي ميناء بيروت‏.‏ كما عبرت مصر بكافة فصائلها السياسية وفئاتها عن تضامنها مع لبنان‏,‏ وتجلي ذلك في تلك الوقفة الرائعة لسبعين مصريا يمثلون جميع التيارات الحكومية والحزبية والشعبية علي أرض بيروت في مقار رئيس الجمهورية والحكومة ومجلس النواب‏.‏ وحملت تلك الزيارة الكثير من المعاني لشعب يواجه محنة تتابعت فصولها‏.‏ وعلي مستوي الشارع اللبناني كان هناك المستشفي العسكري الميداني علي أرض جامعة بيروت‏.‏

والحقيقة أن لبنان لم يكن في حاجة إلي مزيد من الدماء العربية التي تراق في حروب لاطائل من ورائها‏,‏ أو المزايدة علي آلامه وجراحه‏.‏ وإنما كان في حاجة إلي من يستنهض إرادة الحياة الكامنة في ضمير هذا الشعب‏,‏ ويدعم قدرته علي الصمود والمواجهة‏.‏ وهذا ما عبر عنه فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان خلال لقائه بالوفد الرسمي والشعبي المصري حين وصف وصول الوفد المصري بانبلاج نور جديد في سماء لبنان يبشر بفجر جديد‏.‏

ولقد ضم هذا الوفد جمال مبارك والفريق الحكومي الممثل في أنس الفقي وزير الإعلام والمهندس رشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة‏,‏ والدكتور حاتم الجبلي وزير الصحة‏,‏ مع عدد من الفنانين والإعلاميين والصحفيين وممثلي الأحزاب والنقابات‏.‏ وكان وفدا نموذجي التكوين والتعبير‏,‏ وزخما إضافيا حمل الكثير من المعاني للبنانيين أنفسهم‏.‏ فلقد رسمت صور الدمار في شوارع بيروت والوجوه الهائمة في طرقاتها لوحة مليئة بخيوط الدم والدموع والدمار والدخان‏.‏ وكانت العاصمة بمبانيها وطرقاتها وحركة شوارعها شاهدة علي همجية العدوان‏,‏ وتدفع من دماء أبنائها ومقدرات شعبها ثمن التناقضات التي سكنت أرضها زمنا‏.‏ فهذه هي المرة السابعة التي تتعرض فيها أرض لبنان للتدخل العسكري الإسرائيلي‏.‏ وتؤكد مشاهد الدمار في بيروت ضراوة المعركة الدائرة في الشرق الأوسط بين ثقافة الحرب وثقافة السلام‏.‏ بين المتعطشين للدماء وجوعي الحرب‏,‏ وبين دعاة السلام والبناء والتنمية‏.‏ معركة ربما تطول فصولها‏,‏ ولكنها لابد أن تنتهي إلي التعايش‏.‏ فالرغبة الكامنة في البقاء سوف تحسم المعركة في النهاية لمصلحة صناع السلام علي الجانبين‏.‏

فهناك مباحثات تدور الآن في واشنطن وكواليس مجلس الأمن في الوقت الذي تدور فيه الحرب علي لبنان كله وخاصة في الجنوب الذي دمرته إسرائيل بالكامل‏,‏ وأصبحت قراه ومدنه خير شاهد علي همجية الطيران الإسرائيلي‏,‏ بل وأصبحت تعبيرا عن المجازر والتدمير الذي لحق بالبلاد‏,‏ فكل قرية نالها من هذه الحرب ما بين مجزرتين أو ثلاث مجازر وفقا لما رصده نبيه بري رئيس مجلس النواب في تشخيصه للحرب خلال لقائنا معه‏.‏

ولقد تنفسنا الصعداء عندما قال لنا إن حزب الله والمقاومة وافقا علي قرار الحكومة اللبنانية بنشر قوات الجيش اللبناني في الجنوب‏..‏ صحيح أن هذا القرار جاء متأخرا‏,‏ ولكنه في النهاية يعكس تطورا إيجابيا في مواقف الأطراف المختلفة‏.‏ ويجب أن يدرك الجميع‏,‏ بمن فيهم إسرائيل‏,‏ أن هذه الخطوة ليست نهاية المطاف‏,‏ وأنه لابد أن تتلوها خطوات أخري‏,‏ وفي المقدمة منها تبادل الأسري والرحيل عن مزارع شبعا حتي لاتبقي هناك ذريعة لاستمرار العنف في جنوب لبنان سواء من المقاومة أو من إسرائيل‏.‏

محمود ياسين – منير فخرى – احمد عبدالمعطى

إن العمل السياسي المصري في هذه الأزمة عكس قدرة مصر علي التأثير وإحداث التغيير الحقيقي‏,‏ فهي عندما تتحرك من منظور جماعي ومتناغم فإن تأثيرها في محيطها يبدو خلاقا ومبدعا‏,‏ ويمكن أن نجمل ملاحظاتنا في هذا الصدد فيما يلي‏:‏

ـ منذ بداية الأزمة في‏12‏ يوليو الماضي شكلت تصريحات الرئيس حسني مبارك التعبير الصحيح لكيفية الخروج من تلك الحرب‏,‏ والتشخيص الدقيق لتداعياتها‏,‏ فبعد مذبحة قانا الثانية ألقي خطابا أبرز فيه أنها جريمة حرب بكل المقاييس‏,‏ وطالب بالتحقيق الدولي فيها‏.‏ ثم أشار إلي أن تقاعس الأمم المتحدة عن إصدار قرار من مجلس الأمن كان وراء اتساع رقعة الحرب ومآسيها‏,‏ ومن هنا تحركت مصر من خلال وزير خارجيتها أحمد أبو الغيط لعقد اجتماع لمجلس الجامعة العربية في بيروت‏.‏

ونعتقد أن التحرك الداخلي اللبناني وموافقة المقاومة علي قرار الحكومة بنشر الجيش اللبناني علي الحدود سيكون له تأثيره الملموس علي قرار مجلس الأمن المرتقب خلال الأيام المقبلة‏,‏ فالحقيقة أن موافقة السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله علانية في آخر أحاديثه بنشر قوات الجيش في الجنوب علي الحدود اللبنانية الإسرائيلية الشمالية قد شكلت منعطفا استراتيجيا جديدا لمسار تلك الحرب المجنونة‏,‏ التي انهزمت فيها نظريات الحرب الإسرائيلية‏,‏ ولكن بثمن قاس تحملته لبنان من تدمير وتشريد وتهجير لأكثر من مليون مواطن‏.‏

وفي هذا الصدد كان الوفد الحكومي المصري والشعبي رائعا في التعبير عن المساعدة الاقتصادية والمعنوية‏,‏ فالمشاركة والتضامن في مثل هذه اللحظات القاسية تشكل رسالة محددة لمعاني الأخوة والتضامن‏,‏ ومصر تعمل بلا مزايدة‏,‏ كما عبر عن ذلك وزير الإعلام أنس الفقي‏,‏ كما أنها تحشد كل قواها ومصانعها ورجال أعمالها وعمالها وراء هذا العمل الكبير والمتناغم‏.‏ وفقا لما أكده المهندس رشيد محمد رشيد وزير الصناعة والتجارة‏..‏ وأيضا في مجال الإغاثة الصحية والأدوية‏,‏ فإن هناك خطة مستمرة حددها الدكتور حاتم الجبلي وزير الصحة‏.‏ وقد سعد اللبنانيون كثيرا بالوقفة المعنوية والحب الكبير الذي عبر عنه الفنانون والكتاب المصريون ورجال المجتمع المدني والأحزاب‏.‏ ويهمني هنا أن أشير إلي د‏.‏ ممدوح جبر ومنير فخري عبدالنور ومحمود ياسين وأحمد عبدالمعطي حجازي ومصطفي بكري‏,‏ فقد كانت رسالتهم واضحة وقوية ومعبرة عن المجموع بلغة هادئة ومتزنة‏,‏ تتفق مع السياسة المصرية وحكمتها وقدرتها التأثيرية‏..‏ وهكذا كشفت صورة الوفد من خلال تحركه وتكامله عن قدرة مصر ومكانتها وقوتها عندما تتحرك لإنقاذ أخوتنا سواء في لبنان أو في منطقتنا العربية‏.‏

وأعود إلي الحرب الدائرة في لبنان فأقول إن الشرق الأوسط قد دخل بموجبها مرحلة فقدان العقل والرشاد وسيطرة الغضب والانفعال في جو يسوده صمت رهيب ومريب من المجتمع الدولي ومنظماته المختلفة‏.‏ والفارق في مواقف الأطراف هو أن الغضب العربي في معظمه هو رد فعل للشطط الإسرائيلي والمبالغة في الانتقام والوقوع فريسة لأوهام القوة العسكرية‏.‏

والحقيقة أن أكثر ما خسرته وتخسره إسرائيل هو فقدانها القدرة علي فهم الجغرافيا السياسية للمنطقة التي تعيش فيها وأيضا فقدان القدرة علي الاستماع‏.‏ فلقد اعتاد الساسة الإسرائيليون الحديث والتظاهر بالاستماع‏,‏ بينما تختبئ نياتهم تحت حروف كلماتهم‏.‏ وكل ما تفعله إسرائيل أمس واليوم هو أنها تجعل التفاوض في المستقبل أصعب من ذي قبل‏,‏ حين تصب كل يوم في الذاكرة العربية الجماعية مشاعر الكراهية والشك‏,‏ وتطيل أمد العداء‏.‏ لكن الواضح هو أن الخلافات القائمة بين العرب وإسرائيل لن تنتهي إلا بالتفاوض‏,‏ شاء الساسة في إسرائيل أو لم يشاءوا‏,‏ وشاء بعض العرب أو لم يشاءوا‏.‏

وسوف يضطر الجميع إلي الجلوس حول مائدة المفاوضات بحثا عن حل يرضي الجميع‏.‏ وإذا كانت الأصوات الإسرائيلية‏,‏ التي تطالب الآن بالتفاوض والتعايش‏,‏ في ازدياد‏,‏ فإن ذلك ليس هو الحال في العالم العربي‏,‏ حيث يواجه المنادون بالسلام مقاومة زادها طيش القوة الإسرائيلية عنادا‏.‏ فحين زار الرئيس الراحل أنور السادات القدس كان الرفض العربي الشعبي أخف حدة مما هو عليه الآن‏,‏ حيث شهدت مسيرة السلام ومازالت تشهد من ساسة تل أبيب عنادا وانتهاكات زادت الشارع العربي غضبا ورفضا للتفاوض مع إسرائيل‏,‏ التي انصب اهتمامها علي مخاطبة الغرب لتسويق عدوانها المستمر علي جيرانها‏.‏

وبينما يخوض مقاتلو حزب الله والجنود الإسرائيليون الحرب علي الأرض اللبنانية فإن الشرق الأوسط تنتظره ـ وفي المقدمة منه لبنان ـ الخسارة في كل الحالات التي قد تنتهي إليها هذه الحرب‏.‏ فقد خسر لبنان الكثير من كل شيء‏..‏ من الأرواح والمصابين والممتلكات والمقدرات‏.‏ ولم يكن سوي أرض لمعركة أطرافها الحقيقيون من خارجه‏.‏ وإذا حققت إسرائيل أهدافها من هذه الحرب وادعت النصر‏,‏ فإنها سوف تزداد جنونا وغرورا‏,‏ وسوف تجنح بعيدا عن السلام وتزداد تحالفا مع اليمين الأمريكي المحافظ‏,‏ الذي يريد إعادة صياغة العالم وفي المقدمة منه الشرق الأوسط‏

ولابد أن تكون لإسرائيل اليد الطولي في هذا الواقع الجديد المرغوب من الإدارة الأمريكية‏.‏ كما أن النصر الإسرائيلي سوف يدفع بموجة عاتية من العنف لن تطول إسرائيل وحدها‏.‏ وإذا حقق حزب الله شيئا من النصر المعنوي‏,‏ فإن جزءا من مقدرات العرب سوف يخضع لحكومات مجاورة‏,‏ لها في الجسد العربي أولياء تراودهم أحلام من التاريخ الوسيط والقديم بالسيادة العرقية والمذهبية‏.‏ ويبدو أن هذه الحقيقة غائبة الآن‏,‏ إلي حد ما‏,‏ وسط موجة الغضب والانفعالات السائدة‏.‏ وعلي الذين يتشككون في ذلك مراجعة زيارة وزير الخارجية الإيراني إلي لبنان‏.‏

ونصل الآن إلي تيار المزايدات العربية الذي وجد له في الحرب علي لبنان ظروفا مواتية من بعض الرسميين والإعلاميين وقادة الحركات والفصائل‏,‏ ومنهم المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة الذي اختزل الإسلام في جماعته والحركات التي ترفع شعاراته نافيا عن غيرها العمل في ظل هدي الإسلام‏.‏ كما اتهم الحكام العرب بتنفيذ الخطة الصهيونية ـ الغربية بمحاربة الإسلاميين وإقصاء الرؤية الإسلامية بكل سبيل‏.‏ ثم استدرك إلي مصالحة المناضلين غير الإسلاميين حين قال‏’‏ إننا لاننفي دور المناضلين غير الإسلاميين في مقاومة المشروع الصهيوني ـ الأمريكي

بل إننا نقدر جهاد كل الفصائل الوطنية في التصدي لهذا المشروع‏.’‏ لكنه لم يشرح لنا مصير الذين سقطوا في المعارك تحت راية الوطن والدفاع عنه‏.‏ أهم شهداء أم كان جزاؤهم تقدير الشيخ وجماعته؟‏..‏ كما أنه تناسي دور الرجال الذين عبروا قناة السويس في أكتوبر عام‏1973‏ وهم يهتفون الله أكبر‏,‏ ومن قبلهم الذين خاضوا معارك كثيرة في حروب‏48‏ و‏56‏ و‏67‏ وحرب الاستنزاف والعمليات الخاصة‏,‏ ولم يقل لنا هل كانوا شهداء راحوا دون الدين والأهل والأرض والكرامة أم كانوا قتلي لأنهم لم يكونوا يوما من جماعة الإخوان؟

ثم يخرج علينا بتصريح غريب‏,‏ أعلن فيه استعداده لأن يمد حزب الله بعشرة آلاف مقاتل ثم تراجع عنه‏,‏ متعللا بأن تلك النية قد لاتترجم أبدا علي أرض الواقع بسبب معارضة الأنظمة العربية‏!!‏

والحقيقة أنه في سوق المزايدات سبقه آخرون إلي هذه الفرية مرات ومرات‏,‏ ويبدو أن الشيخ لم يعد يدرك أن وعي الناس بالواقع قد تغير‏,‏ وأن الحماس والانفعال بما يجري لن يكون مبررا لتقبل مثل هذه الادعاءات‏.‏ وربما أراد توصيل رسالة لحكومات وشعوب أخري‏,‏ يواصل بها ادعاءات القوة الداخلية المزعومة‏.‏ وبصراحة فإن حديث الرجل عبارة عن مسلسل من كلمات يريد بها لفت الانتباه إلي جماعة تأمل من السياسة أضعاف ما تأمله من الدين‏.‏ كما أنه لايعي أن المصريين جميعا يدركون الآن أن تلك الجماعة لاتزيد في أهدافها وفي مساعيها علي كونها جماعة سياسية راديكالية مهما اختارت من شعارات‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى