الحرب في لبنان وفلسطين المــأزق.. والمخــرج

تشهد الساحتان اللبنانية والفلسطينية الآن عدوانا إسرائيليا مدمرا, حيث تحصد آلة إسرائيل العسكرية المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين, وقد دفعت الآلاف من سكان الجنوب اللبناني إلي النزوح نحو الشمال, بعد الحصار والاجتياح المروع للفلسطينيين في غزة. ولقد امتدت ألسنة النيران لتقضي علي ماتبقي للبنانيين من كيان وبنية أساسية لممارسة الحياة الضرورية, وسوف يتكبد الاقتصاد اللبناني الهش والضعيف خسائر فادحة, خصوصا ضياع فرصته الاقتصادية في موسم الصيف, الذي ينتظرونه للوصول إلي القوت الضروري اللازم لاستمرار الحياة. ونلمس ذلك بوضوح فيما تشهده موانيء ومرافيء بيروت, والطرق البرية عبر سوريا, من حركة نزوح للأجانب واللبنانيين الذين يحملون جنسيات أخري هربا من نيران الحرب العبثية. وهكذا نجد أن المسرح يهيئ لبنان لحرب واسعة النطاق تحرق ماتبقي لهذا البلد الشهيد والفريسة, الذي يتجه إلي أن يدفع هو وشقيقه الشعب الفلسطيني ثمن أخطاء فادحة ارتكبها البعض باسم الشعب وباسم المقاومة, وانتهزتها إسرائيل فرصة لتحقيق أهدافها والاستئساد علي المدنيين والبنية الأساسية, التي تعد الهدف السهل للطيران العسكري الإسرائيلي. لكن هذا الطيران يقف اليوم عاجزا بل فاشلا.. ولن يحقق أهدافه التي أعلنتها إسرائيل, برغم ما يثيره من زوابع وما يجره من خراب للبلاد والسكان المدنيين الأبرياء. وهذا المشهد الجديد في الصراع مع إسرائيل لن تجدي معه حالات الصراخ التي يفتعلها البعض لجر الأنظمة العربية التي تملك جيوشا نظامية سواء التي وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل, أو التي في طريقها لذلك, إلي الانجراف للمشاركة فيه بحجة النجدة أو النخوة, لأنها إذا فعلت ذلك فسوف تقع في المحظور الذي تنتظره إسرائيل لكي تخرج من المأزق الذي تعيشه, حيث إنها تتحصن وتتخندق وراء منطق القوة والغرور, وهو الخندق نفسه الذي يتحصن به المتطرفون والمنظمات التي ترفض منهج تسوية النزاعات والصراعات المزمنة عبر مائدة الحوار والتفاوض. إننا نعيش في صراع طويل سوف تهزم فيه كل الأطراف التي تحميها القوة والغرور وعدم الفهم وتكرار الأخطاء, ولن ينتصر فيه سوي العقل والحكمة والالتزام بموازين الحق والعدل, وهي الأسلحة التي نملكها. وأخص هنا القضية الفلسطينية العاجلة التي لن يجدينا فيها ـ ونحن نحاول أن نضع حدا للهيب الحرب وسقوط الضحايا ـ أن نتحدث عن المخطئين الذين ارتكبوا أو دفعوا بنا وبالمنطقة للوصول إلي نقطة الحرب, التي قد تتطور إلي حرب إقليمية شاملة, تتماثل نذرها وشواهدها, بل وذرائعها أمامنا الآن.. فهناك ما يتعلق بجيراننا من الشعب الإيراني وأزمته النووية المطروحة علي مائدة العالم وقواه الكبري والصغري ومنظماته الدولية بكل أشكالها, والتي تعيش وسط تفاعلات وتداعيات من حروب الإرهاب والخلط المتعمد بين الإسلام كدين, وبين شعوب ومنظمات تتحدث باسمه ولها أيديولوجية المقاومة.. وكل ذلك يدفع هذا المجتمع الدولي الي اتهام الجميع بأنهم إرهابيون. | |
ووسط هذه الصراعات وأتونها وصرخاتها وكارثة العراق التي فجرت وأحيت صراعات الطوائف والمذاهب من جديد, تتفجر كارثة حرب لبنان علي يد حزب الله, وما يمثله كأحد مكونات الشعب اللبناني بما له من شعبية, ولا ينكر أحد دعمه من إيران.. وهذه الحرب لن يدفع ثمنها حزب الله وحده, ولكن سوف يدفعه كل لبنان بطوائفه من مسلمين ومسيحيين وغيرهم! بل ستدفعه المنطقة وشعوبها التي لن تقبل للبنان أن يموت, فكلنا عرب وكلنا لبنانيون مع شعبه وأرضه. ومهما تكن الأسباب والذرائع التي دفعت إسرائيل الي العدوان فإن أسر ثلاثة جنود علي أيدي حماس وحزب الله ليس مبررا لأسر كل الفلسطينيين وحصار غزة وضرب لبنان وتهجير شعبه وتخريب اقتصاده, وعلينا ألا نهرب من المسئولية, وأن نسعي إلي أن يتحمل المجتمع الدولي مسئولياته, وأن يكون تركيزنا في اللحظة الراهنة علي وقف الحرب بلا شروط أو تعنت, وأن نذهب جميعا إلي ما تهربنا من التزاماته طويلا, بمعالجة القضايا الشائكة سواء بيننا وبين بعضنا البعض بالفهم والموضوعية, أو بيننا وبين إسرائيل كطرف آخر, وعلينا أن نراعي أن القضية العربية ـ الفلسطينية واللبنانية لا تتحمل خلطها بالأوضاع في إيران, أو حتي في العراق, إذ إن خلط الأوراق كلها في لحظات الأزمة الساخنة يعني أنه لا يمكن حلها إلا بالحروب الطاحنة, وهو ما سيكون بالقطع علي حساب القضية الفلسطينية وشعبها, وهذا ما نراه الآن, حيث تستخدم إسرائيل تعبير عملية عسكرية لحزب الله لكي تقول للمجتمع الدولي أنها تطبق القرارات الدولية التي عجزت حكومة لبنان وطوائفه عن تنفيذها, أي أنها تطبق القرار رقم1559 لإبعاد سلاح المقاومة عن الحدود, كما أنها استخدمت عملية غزة لضرب واجتياح الفلسطينيين في هذا القطاع الواقع تحت الاحتلال. والغريب أن المجتمع الدولي بكل منظماته يقع تحت التأثير الأمريكي بالرغم من مشاهد الخراب والدمار التي يتابعها العالم كله, وقد ظهر ذلك التأثير واضحا في اجتماعات الدول الثماني أخيرا في بطرسبورج, حيث أعطت الدول الكبري إسرائيل ميزة لم تحصل عليها من قبل في كل حروبها السابقة, فأوضحت أنها تخوض حربا يقف وراءها المجتمع الدولي الذي يشجعها ويؤازرها. وللأسف فإن المجتمع الدولي لم ير في المأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب اللبناني مبررا للتدخل, بل إن مجلس الأمن الدولي ولأول مرة لم يصدر قرارا يدعو فيه إلي وقف إطلاق النار, وهو ما يعني وجود تواطؤ عالمي مع الجريمة الإسرائيلية ضد شعب لبنان, متخفيا وراء صراعات وحروب الإرهاب والمخاوف من قنبلة إيران النووية. وما يمثله حزب الله من التبعية لها, أو أنه إحدي ميليشياتها, وتناسي الجميع الأوضاع الخاصة التي تعيشها المنطقة العربية, ومعاناة الاحتلال, ومصادرة حقوق الشعوب العربية أمام آلة القمع والاحتلال العسكرية الإسرائيلية. ولكننا نراهن علي عقلية حزب الله ونقصد عقلانيته, والتي كنا نراها ماثلة في كل خطوات الصراع مع إسرائيل, والتي كانت تدفعه إلي حسابات معقدة حتي لا يتم تغيير قواعد الصراع علي حساب قضيته, بل وعلي حساب القضية العربية كلها, خاصة في تلك الظروف الحساسة التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط. ولكي نصل إلي نقطة الأمان يجب أن يكون مفهوما لبنانيا أنه لا يمكن التضحية بحزب الله وطائفته الشيعية, كما لا يمكن التضحية بلبنان لمصلحة قضايا أو أوراق سياسية يتبناها الحزب.. وهنا تبرز أهمية وحدة اللبنانيين, ووضوح رؤاهم وخططهم الاستراتيجية التي تمثل قضية جوهرية للحفاظ علي الوطن. والأهم هو أن يسارع حزب الله عند توقف آلة الحرب إلي الاتفاق والوحدة مع اللبنانيين من أجل بناء دولتهم الحديثة المتحدة, وسط قواعد معروفة لاتتحمل التأخير مع قاعدة الحقوق للجميع.. دولة حديثة متطورة يستحقها الشعب, وكفي لبنان أنه ظل مسرحا لحروب الآخرين علي أرضه, أو رهنا للوقت, حتي تسمح القوة المؤثرة علي أرضه باتخاذ القرار. لقد كشف العدوان الإسرائيلي الأخير عن أن لبنان نقطة حساسة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي, وأنه يجب أن تتفق كل القوي المتصارعة علي إخراجه من اللعبة, حتي لايستمر هذا الشعب المطحون في دفع ثمن لاذنب له فيه, وهو ماعبر عنه الرئيس حسني مبارك عندما طالب بضرورة وقف القتال والتدمير ضد شعب لبنان الأعزل, والتوقف عن قتل المدنيين وضرب البنية الأساسية, بل إنه شرح التصور بعد ذلك, عندما حدد أن الوقف الفوري لإطلاق النار بلا شروط سوف يتيح الفرصة للتفكير في حل للمشكلة, لأنه ليس هناك أي طرف مستعد للاستجابة لأي شرط, إلا في ظل وقف إطلاق النار والهدوء, بما يتيح التحدث بمنطق وعقلانية. وإذا نظرنا إلي السياسة المصرية فسوف نجد أنها كانت مدركة تداعيات الحرب وعواقبها, واستخدمت اتصالاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في توظيف الحوار الاستراتيجي المصري ـ الأمريكي, الذي عقد في واشنطن, في الضغط من أجل وقف عاجل لإطلاق النار, علي أن يرتبط هذا المطلب أساسا بالتعجيل بالتوصل إلي تسوية لاتستبعد تنفيذ القرارات الدولية خاصة القرار1559, والمطالبة بتشكيل قوة لحفظ السلام ونشرها علي الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية, وتوسيع نطاق القوة الحالية, وأن تفرض الحكومة اللبنانية كامل سيادتها علي منطقة الحدود. وقد اصطدمت الرؤية المصرية بخلافات مع الرؤية الأمريكية, التي تركز علي نزع سلاح حزب الله, الذي تراه مصر جزءا من العملية السياسية في لبنان. ونصل بعد ذلك إلي نقطة جوهرية, وهي أننا يجب ألا ننزلق إلي منهج الصياح في التعبير الذي تحشده بعض الجماعات الإسلامية حول المقاومة, التي يجب أن نحترمها, لكن أي نوع من المقاومة, فهناك أشكال عديدة منها يجب أن يعاد استخدامها واحترامها, فالمقاومة الدبلوماسية التي نراها ضرورية, لها أساليبها المتعددة التي يؤيدها المجتمع الدولي ومنظماته, ويمكن الاستعانة فيها بكل الأصدقاء القدامي للقضية العربية الفلسطينية من روسيا والصين والهند والأوروبيين, بل والكثيرين من الأمريكيين, الذين يرفضون السياسات الراهنة للتعامل مع قضايا الصراع والحرب وكيفية مقاومة الإرهاب وتداعياته؟. ونتوقف هنا أمام بعض التصريحات الإعلامية العنترية للتأثير في الرأي العام بأننا أمة مضحوك عليها, وأن خيبة الأمل تحاصرنا, إذ إن هذا يمثل هروبا من مسئولياتنا وأخطائنا في معالجة قضايا الصراع مع القوي الأخري للوصول إلي حقوقنا, كما أننا نحاول تبرير هذه الأخطاء عبر القول إن عملية السلام قد ماتت أو أنها لعبة خادعة. وإذا كنا نطالب بعودة الأمم المتحدة لتولي زمام العمل السياسي والدبلوماسي, وأن تكون مسرحا لإدارة عملية سياسية بين العرب والإسرائيليين, فإن هذا لا يعني تغييب أدوار أخري, أو أن تموت لجان مؤثرة, مثل اللجنة الرباعية, فكل ذلك ليس عملية لغو فارغ, لأننا بهذا الأسلوب سوف نقع فريسة لما تريده إسرائيل, التي تسعي إلي الوصول بنا إلي حالة اليأس التام من عملية السلام, أو عدم العودة إلي التفاوض الذي اتجهنا إليه منذ مؤتمر مدريد عام1991 ثم أوسلو, وغيرهما, وهي المؤتمرات, التي نتجت عنها عملية سياسية تراكمية لمصلحة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. ولذلك لا يمكن أن نترك إسرائيل تتهرب من التزاماتها الضرورية, فلقد غيرت اتجاهاتها في التعامل مع العرب ومع المنطقة, وتري ضرورة الفصل الأحادي, وتحاول أن تفرض علي الفلسطينيين الحل والأرض بالأسلوب الذي تريده, وبالحصار وبالتجويع وبالجدار الفاصل وبكل أساليب القوة والضرب بحجة أنه لايوجد شريك لها في عملية السلام, وتجد دائما في المتشددين وأصحاب التصريحات الإعلامية ملجأ لفرض سياستها الجديدة وللأسف فإننا نكرر أخطاءنا, ولا نتردد في تكرار اللعبة نفسها, ونحن سعداء بطرح اللغة التي تعجب الشارع, وتظهرنا في لحظة معينة بأننا حققنا أهدافنا وغسلنا أيدينا من قضايانا, ثم نكتشف بعدها أننا أعطينا إسرائيل كل المبررات والذرائع لكي تواصل نفس منهجها القديم, وتحاول تغيير قواعد اللعبة بما يحقق مصلحتها, ويظهرنا دائما أمام المسرح العالمي بأننا الذين نرفض السلام أو شربنا المقالب كما يقول عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية.. إن لعبة الصراع مع إسرائيل طويلة وصعبة وشاقة, ولن يكسبها العرب عبر رفض السلام, والتفاوض, ولكن بتصحيح أخطائهم المتكررة في إدارة عملية السلام والاتفاق حولها وليس بالصراع عليها. وعند الغوص في أسباب ومبررات الفشل والعودة للحروب وإعطاء الذرائع لإسرائيل سوف نكتشف أن الخطأ ليس في سياسة إدارة الصراع عبر السلام والتفاوض, ولكنه في الأوضاع الداخلية لقضايانا, والتناحر العربي ـ العربي, والتأخر في اتخاذ القرارات, ومحاولة طرف تحقيق المكاسب علي حساب الآخر!. إن لحظات الحرب تقتضي منا أن تزداد يقظتنا وقدرتنا علي إدارة الصراع, وكشف العدو وضبطه متربصا بالخروج علي القواعد, وليس بالتهرب من الالتزامات والصحوة ومواجهة التحديات, فلقد خسرت إسرائيل الكثير باستخدام القوة المفرطة ضد الفلسطينيين واللبنانيين وتبين لها أن قوتها هذه عاجزة مهما يبلغ حجمها عن تحقيق الاستقرار للشعب الإسرائيلي, وأنه ليس أمامها إلا الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعوب العربية, وأنها لن تستطيع تحقيق مصلحتها عبر سياسة الفصل الأحادي بالقوة علي صعيد القضية الفلسطينية, بل يجب أن تتفاوض مع الفلسطينيين للوصول إلي الحدود المشتركة وإعطائهم حقهم في إقامة دولتهم المستقلة, والاعتراف الموضوعي لهم بالإشراف علي المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس. إن علي إسرائيل أن تعي جيدا أنه لا يمكن حل المشكلات والأزمات والصراعات عن طريق التجاهل, فمن الضروري أن تعرف أن مصلحتها في بدء تفاوض جوهري وسريع ومنظم مع السوريين واللبنانيين معا.. تفاوض يسمح بإنهاء الصراع والاتفاق علي الحدود, وصولا إلي إنهاء حقيقي لجذور الصراع حتي لا تتكرر الحروب وعدم تكرار شن الحروب. وأخيرا فإن قضية معقدة مثل قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي تحتاج إلي النفس الطويل والرؤية الشاملة التي لايبددها غبار الصراع وطلقات المدافع وضربات الطائرات والصواريخ, ويجب أن يدفعنا سقوط الضحايا والمآسي الإنسانية إلي التحرك الإيجابي والفعال, صوب الأهداف الحقيقية, التي تحمي المنطقة من الانتحار الجماعي. | |