لمن تدق الطبول في الشارع السياسي ؟

في مصر اليوم أياد قليلة من محترفي المعارضة تقرع طبولا كثيرة علي شاشات الفضائيات وصفحات الصحف, وقد اختلطت أصواتها, وتنافرت إيقاعاتها, حتي تكاد تصم الآذان, وتقترب من حد إعلان الحرب علي المجتمع والنظام. فلقد أغراها الصبر علي الحرية فخرجت بها عن غايتها إلي درجة الفوضي. ولم تترك إنجازا إلا وأهالت عليه التراب وأخذت تقلب في صفحات الماضي والحاضر, وتطفئ كل أمل زرعناه بالأمس, وتغتال كل فرحة بالحصاد اليوم أو غدا. إننا ندفع جميعا ثمنا باهظا للحرية التي انفلتت من كل عقال, وخرجت علي كل إطار أو مسئولية أو التزام, وهوت إلي لغة مبتذلة, تعبر بها عن أفكار وقيم أشد ابتذالا. والثمن هو المزاج العام الذي أصبح ساخطا ناقما تحت وطأة أصوات الطبول النشاز في قرع لم يهدأ أو يتوقف.فلقد سقطت لغة الحوار السياسي والصحفي إلي هاوية الخطر, وفرضت مفردات قاع المجتمع علي الجميع, وهكذا أصبح الخطاب السياسي المحمول إعلاميا عبارة عن دروس يومية في ابتذال الكلمة وسوقية التعبير وبدلا من أن تفتح الحرية الأبواب أمام الإبداع والتجويد والإتقان وأدب الحوار, أصبحت صوتا نجلد به أنفسنا, وميدانا لاقتتال لاغالب فيه ولامغلوب. لقد فتح الرئيس حسني مبارك وحده أبواب الحرية في مصر, وحافظ عليها علي مر السنين, وقد كان بوسعه ـ مثل من سبقوه ـ أن يملأ السجون بالمتجاوزين, وأن يحبس الكثيرين في قبو أنفسهم, وأن يخرس أصواتا كثيرة, وأن يفرض قيودا علي الحرية بمبررات ما أكثرها. ولكنه آثر أن تستمر أبواب الحرية مفتوحة, وأقلام النقد مشرعة تكشف عن الأخطاء في كل مكان. وكانت رؤيته ـ كما عبر عنها أكثر من مرة ـ هي أننا عابرون من ماض كممت فيه الأفواه, إلي مستقبل تستقر فيه العلاقة بين الحرية والمسئولية. وما بين ذلك الماضي وذاك المستقبل مرحلة انتقالية لابد أن نتحمل ما فيها من اضطراب. لكن بعض محترفي السياسة والمعارضة لايكترثون بتعميق مفاهيم الحرية في ثقافتنا, ولايعبأون بغرس سلوكياتها في المجتمع. واصبح همهم الوحيد هو استغلالها في الوصول إلي أهداف فئوية ضيقة, وما إن يصلوا إلي بغيتهم حتي تصبح الحرية التي ينعمون بها اليوم أولي ضحاياهم. ولقد اقترب قرع الطبول كثيرا من الرئيس مبارك, حتي عاب علينا الآخرون أدب الحوار والتقدير والاستهانة برمز الوطن الذي نعيش فيه. وأصبح جيراننا في قلق من الحرية إذا كانت هذه هي نتائجها. فلا معني لحرية تغتال سنوات من الإنجاز, وتتنكر لجهد طويل وشاق خطي بمصر خطوات كثيرة إلي الأمام في مختلف نواحي الحياة. ولامعني لحرية تزرع اليأس في النفوس, وتدعو الناس إلي النظر بأسي وغضب إلي الماضي والحاضر والمستقبل. | |
إن الرئيس مبارك جزء من تاريخنا, ورمز لوجودنا وجهودنا علي مدي سنوات طويلة مضت, وحتي قبل أن يستبدل ملابسه المدنية ببدلته العسكرية. فهو جزء من التاريخ المعاصر للعسكرية المصرية في سنوات البناء والانكسار, والانتصار فوق الرمال في الصحراء, وتحت أشعة الشمس الحارقة لمن أراد أن يتذكر, وهو جزء من ضمير المصريين في مواجهة الأزمات العاتية التي ظلت تلاحق هذا الوطن سنوات وسنوات. فلقد قاد مسيرة حلت الكثير من المشكلات التي أصبحت جزءا من الماضي, وتمضي نحو تحقيق حلمنا بالعبور إلي الأمان والاستقرار لنا ولأجيالنا القادمة. فلماذا يريد البعض تغييب حقيقة ما قام به مبارك من أجل مصر ومن أجلهم أيضا. إن من حق المعارضة وقد أصبحت جزءا من النظام السياسي أن تبدي آراءها ورؤاها, وأن تعترض ما وسعها الاعتراض, ولكن ذلك الاقتراب المؤسف من الرئيس لغة وفكرا يضعها في موقع الابتذال والغوغائية, وهو موقع يفقدها المصداقية, والجدية اللازمة لإخراج الأغلبية عن صمتها وسلبية مشاركتها السياسية. أيضا فإن احترام الرموز واجب وطني وأخلاقي. فالرئيس مبارك رمز لإجماع الأمة واختيارها في انتخابات رئاسية لم نعرفها من قبل, ولكن يبدو أن بعضنا لايدرك مغزاها ومعناها. وبالرغم من أن التاريخ الوطني له أوضح من أن تخطئه عين مصرية, فإن المعارضة لم تقترب منه بما يليق به وبتاريخه وإنجازاته ومكانته. فلقد راحت تقرع طبولا جوفاء بالقرب منه, وهي طبول تفتقر إلي أي معني او منطق أو عقل أو حتي معلومة تفرض احترامها علي عقول المصريين. والحقيقة أنها لم تنل من مكانة الرئيس في نفوسهم, ولكن هذا الابتذال في مخاطبة رمز مصر يؤذي المشاعر الوطنية, ويفتح الباب لأن يصبح كل شيء مباحا. وخلاصة القول: إن قرع الطبول في المعارضة هو اليوم أسوأ ما يصيب حياتنا السياسية ويعوق تطورها. فهناك غياب شبه كامل للعقلانية والتحليل الرشيد وأدب الحوار والثقافة الرفيعة, وسيادة شبه كاملة للديماجوجية والسوقية في التعبير, والرغبة المستبدة في الإثارة والتهييج السياسي. إذ ما الذي تستفيده الديمقراطية في بلادنا مما هو سائد اليوم علي صفحات الكثير من الصحف.. ومما هو شائع في الخطاب السياسي المعارض ؟. إن الوظيفة الأساسية للمعارضة هي أن تسدد خطي المجتمع وأن تطرح بشيء من العقلانية ما تري أن النظام السياسي يفتقده أو يخطئ فيه, وان تطرح البدائل في الحلول والسياسات وأن تعرض باقتدار كل ما غاب عن المجتمع من أفكار تسدد خطاه. فبهذا المعني تصبح المعارضة واجبا وطنيا وأخلاقيا, وخطوة تسبق الحكومة علي الطريق الصحيح في كل المجالات, ولكن ما نراه اليوم أشبه بمزاد يعتقد المشاركون فيه ان الفوز سيكون حليف الأكثر انفلاتا وافتراء وتجريحا للحكومة والنظام والقيادة. فامتدت ألسنتهم لكي تنال كل من يؤيد النظام ويحترم القانون, ويقر بما تحقق علي أرض الوطن, ويشجع علي المزيد من تلك الإنجازات, وينصف كل شخص قدم عطاء ملموسا, فوصفوهم بالمنافقين والمتسلقين.. وهؤلاء المزايدون يريدون إسكات كل صوت يخالفهم حتي تخلو الساحة أمامهم فيتردد صدي قرع طبولهم الجوفاء.ويحاولون فرض لغتهم وأجندتهم, علي المجتمع واغتيال, كل معارض لها ويستبيحون في سبيل ذلك كل شيء. لقد عرفنا شيئا من الديمقراطية في تاريخنا, وعرفت شعوب أخري مثل هذه التجارب, ولكن الذي بلغته لغة الحوار في واقعنا المعاصر فاق كل التوقعات وتجاوز كل ما يمكن احتماله. إن بعض محترفي المعارضة يعتقدون أن دعاوي الإصلاح الخارجية توفر الحماية لما يمارسونه من ابتذال وابتزاز وسوقية تحت مسميات الإصلاح والدمقرطة. وغاب عن هؤلاء أن ما يحميهم هو النظام الذي يستهينون به صباح مساء, وأن أحد ثوابت هذا النظام ـ التي خبرناها طويلا ـ هو أن الداخل هو مصدر قراراته في السياسة والاقتصاد وفي غيرهما, وأن النظام في مصر قد تعرض للكثير من الضغوط التي لم تفلح في فرض قرار واحد عليه من خارج حساباته المحلية. وحين نطالب باحترام رمز العمل الوطني في ممارسة العمل السياسي فإننا نريد للتعددية السياسية في مصر أن تنمو وأن تستمر, وأن يكون لها مردود حقيقي في مساعينا نحو الديمقراطية, ولانريد أن تتحول الساحة السياسية إلي مزاد تنتهك فيه القيم والرموز. فالممارسة القائمة علي المسئولية الوطنية والأخلاقية كفيلة بإثراء التجربة وتعظيم نتائجها, وتشجيع المزيد من المواطنين علي المشاركة في الجهود السياسية التي تحدد خطوات المستقبل. لقد بلغت مزايدات محترفي المعارضة علي الساحة السياسية المصرية الي حد حديث الإفك عن موقع الفقراء في فكر الرئيس مبارك وتنكر النظام لحقوقهم ومطالبهم. وهي فرية هدفها معلوم للجميع في مجتمع نعترف جميعا بأن جزءا كبيرا من أبنائه في حاجة إلي دعم قدراتهم علي مواجهة سبل المعيشة. وتنفي هذه الفرية عشرات السياسات والبرامج والأحاديث. فالرئيس الذي بدأ التحول الاقتصادي لمصر, اصبح نموذجا لزعامات التحول الاقتصادي الآمن في العالم. وكان اهتمامه بمحدودي الدخل في مصر أحد أسباب وصف التحول الاقتصادي المصري بالبطء. ولم يكن يوما علي استعداد لأن يدفع فقراء المصريين ثمنا لشهادات المنظمات الدولية بالتحول الاقتصادي السريع في مصر, وبالأمس القريب وقف الرئيس مبارك في أكبر تجمع للاقتصاديين العالميين يعلن بلغة واضحة قاطعة موقفه من المواءمة بين الإصلاح الاقتصادي وبين مصالح الفقراء. ولم يعتد هؤلاء الاقتصاديون في مثل هذه المنتديات الاستماع إلي هذه الأفكار. ولكن رسالة الرئيس وصلت للجميع, وأجبرت الكثيرين منهم علي احترام هذه الرؤية التي تتطلع إلي مستقبل آمن للجميع. ومن حق الذين عملوا مع الرئيس مبارك بالأمس واليوم ان يتحدثوا عن جهوده في حماية محدودي الدخل من المصريين, وكيف أنه اعاد إلي الوزارات والهيئات قرارات وقوانين كثيرة رآها لاتأخذ بعين الاعتبار مصالح هؤلاء. وحديث هؤلاء لايعني الرد علي طبول المعارضة فهي أقل شأنا من أن نتحمل عناء الرد عليها, ولكننا في حاجة إلي أن نقترب أكثر من فكر الرئيس وجهوده, حماية للأمل في نفوسنا بأننا بذلنا جهدا, ومازلنا نشد الخطي علي طريق آمن نحو مستقبل مشرق لمصرنا العزيزة. | |