العبث.. قرب منصة القضاء!

بيننا اليوم من يريدون لكل مشكلة صغيرة أن تتحول إلي أزمة تزداد حجما مع الأيام, ولكل إنجاز هائل أن يتضاءل حتي يتلاشي من الذاكرة مع الزمن. بيننا اليوم من يريدون افتعال الأزمات وبث الإحباط واليأس واستنفار السخط في كل النفوس. بيننا اليوم من يريدون التحول بالحراك السياسي الخلاق الذي نعيشه إلي فوضي تخفي نياتهم وحقيقة أهدافهم.
وفي المقدمة من كل هؤلاء أعضاء جماعة الإخوان الذين اقتربوا بعبثهم السياسي من منصة القضاء أكثر السلطات قدسية في الوجدان المصري. ولم يقنعوا ـ وجماعتهم محظورة بالقانون ـ بما أتاحته الحرية والديمقراطية لهم, فراحوا يزرعون الفتنة في كل جماعة ويثيرون البلبلة في كل قضية وهذه الجماعة بتاريخها الذي تقلب بين المواجهات المسلحة والمواءمات السياسية لن تتوقف عن أفعالها التي خبرناها طويلا. ولذلك تظل يقظة المجتمع بكل فئاته هي السبيل الناجع لإحباط مخططاتها التي تسعي بكل وسيلة لاستغلال مشاعر التدين العميقة في النفس المصرية لتحقيق مكاسب سياسية.
والحقيقة أن أصابع الإخوان في أزمة القضاة لم تعد تخفي علي أحد مثلما لاتخطئ العين أصابعهم في أزمات نقابات وتجمعات مهنية أخري. فلقد وضعت الشرائع السماوية والوضعية القضاة في مكانة تليق بالرسالة التي يحملونها. ولكن الإخوان أرادوا جر القضاء في مصر إلي معترك السياسة بآلياته وأساليبه التي تنال من مكانة السلطة التي يمثلونها والعدالة التي يعملون من أجلها. وزين الإخوان للبعض نقل خلاف قضائي داخلي إلي ساحة السياسة والإعلام فاختلطت الأمور وغابت تقاليد عريقة في حسم خلافات القضاء.
لقد حشد الإخوان المتظاهرين حول نادي القضاة في كل مناسبة وهددوا النظام والأمن الذي كان موجودا في الشوارع المحيطة لحفظ النظام, وعندما تدخلت الشرطة حولوا الأمر إلي مواجهة بين القضاة ورجال الأمن وراحوا يزيدون الأزمة اشتعالا حتي فرضت نفسها علي وسائل الإعلام. وهنا أقول إن القضاء واستقلاله وحمايته ليس هدفا من أهداف الإخوان, وإنما هم يريدون ـ ومنذ بداية الأزمة ـ تأليب فريق من القضاة ضد زملائهم الذين أشرفوا علي الانتخابات البرلمانية الأخيرة للتشكيك في نتائجها والتلويح للقوي الخارجية بقوتهم وشعبيتهم. فلقد بدأت الأزمة في الدوائر التي كان للإخوان مرشحون فيها وتصاعدت بنشر بعض أعضاء الإخوان ـ وبتدبير منهم ـ القائمة السوداء تجريحا وإرهابا لقضاة ليس لديهم ما هو أعز من نزاهتهم وسمعتهم. واليوم يريدون النيل من هؤلاء القضاة الذين يقفون للدفاع عن شرفهم وسمعتهم التي تعرضت لها قائمة الإخوان السوداء.
وفي غمرة الأحداث احتفي بعض القضاة كثيرا بالحديث عبر وسائل الإعلام في الداخل والخارج. والحديث لوسائل الإعلام ليس من خبرات القضاة, ومن هنا تم استدراج البعض إلي دنيا السياسة التي نريد للقضاء دوما أن ينأي بنفسه عنها وإلا فعلي الراغب منهم أن يتخلي عن وشاح القضاء. فضلا عن أن هذه الأحاديث لم تنه خلافا ولم تقدم حلولا بقدر ما كانت تستثير المزيد من الخلاف وتقحم آخرين في أزمة كان يسيرا علي القضاة حسمها في قاعاتهم المغلقة حفاظا علي هيبتهم وقدسية السلطة التي يمثلونها.
ومع تصاعد الأزمة وصل الأمر إلي حدود الخطر حين هدد بعض أعضاء نادي القضاة ـ خروجا علي كل التقاليد والأعراف ـ بالإضراب عن العمل في محاولة للتأثير علي شيوخهم وكبار القضاة في مجلس القضاء الاعلي ومحكمة النقض في قضية منظورة أمامهم بالمخالفة لكل القوانين بل ولبنية القضاء إحدي السلطات الحاكمة, وهو ما يشكل جريمة جديدة فادحة للقلة التي تنادي بذلك ويمثل جريمة إنكار للعدالة نفسها وهي سابقة لم تحدث في تاريخنا القضائي العريق.
فأي دروس يمكن أن نتعلمها من خلاف القضاة إذن؟ مهما تبلغ حدود الخلاف أو الاختلاف بين نادي القضاة ومجلس القضاء الأعلي, فإن السلطة القضائية برسالتها السامية تظل أجل وأعظم من أن تناقش أمورها علي قارعة الطريق أو عبر المظاهرات والمسيرات, وأسمي من أن تخضع للمزايدات السياسية وأرفع من أن تدفع من رصيدها الهائل لحساب حفنة من المغامرين في واقعنا السياسي اليوم.
osaraya@ahram.org.eg