تجمع دافوس في شرم الشيخ كيف يرانا العالم.. وكيف نري أنفسنا؟

عبرت أجواء مصر خلال الفترة الأخيرة عواصف شتي, هيج بعضها أحزانا, وأثار بعضها غضبا, وحفر آخرها في النفس ألما وحسرة. وتركت هذه العواصف جميعا في فضاء حياتنا الكثير من الأتربة العالقة, مازالت تحجب عن بعضنا حقيقة ما مر بنا وكيف واجهناه أو كيف نواجهه؟.. ففي الإسكندرية أطل الاحتقان برأسه, وحاول شق وحدة لاتنفصم, وممتدة منذ أربعة عشر قرنا, وفي يوم عيد التحرير دفع أبرياء دماءهم وآلامهم علي أرض سيناء ثمنا للحقد الأسود الذي يتربص بالأمة منذ ثلاثة عشر عاما. وفي القاهرة دست أنوف كثيرة في مطالب القضاة, وأرادت لها أن تكون محنة سياسية تهيل التراب علي إنجازات تحققت وخطوات جادة قطعناها علي طريق الإصلاح. وتوالت الأحداث وتبعاتها حتي فيما يتعلق بمرض إنفلونزا الطيور وحادث العبارة القاسي, اللذين كانا امتحانا قاسيا لإرادتنا وقدرتنا علي مواجهة الأزمات وتفاديها مهما تكن نوعيتها وأسلوبها. ولقد تلقفت وسائل الإعلام المحلية والأجنبية هذه الأحداث, بل وذهب الكثير منها في كل اتجاه تحليلا وتعليقا لكي يضفي علي الأحداث معاني ليست فيها, ويربط بين أحداث لارابط بينها. وقد فرض هذا الإعلام تلك القضايا علي منتديات الحديث والمجالس بتحليلات وتعقيبات كانت جميعها تحاول النيل من المزاج العام, وتستثمر الغضب والحزن في صناعة السخط المفضي إلي الإحباط دون اعتبار للحقيقة الساطعة, وهي أن تلك الأحداث بالرغم من خطورتها ليست مما ينال من أمن مصر, أو يهدد الاستقرار فيها, أو يضعف همتها في مواصلة الطريق الذي تريده. ولعل هؤلاء الذين أرادوا أن تكون الأحداث فتنة يرتد فيها المصريون عن إيمانهم بصناعة الحياة واستمرارها عزيزة في أرضهم, يصيبهم شيء من الخجل, وهم يرون المصريين اليوم يطوون صفحة هذه الأزمات دون أن ينسوها, وإنما يأخذون منها العبر فتزيدهم قوة وقدرة علي المواجهة والاستمرار بلا خوف أو تردد, ولكن يبدو أن البعض يعز عليه أن يتعافي المصريون من هذه الأزمات فيحاولون السعي إلي إبقائها حية في النفوس انتظارا لأزمة أخري. إننا بحاجة إلي منهج جديد في قراءة مشكلاتنا. فليست كل مشكلة خطرا يهدد المجتمع, ويكاد يطيح به كما يحاول أن يصورها أصحاب المزاج التشاؤمي والراغبون في إضعاف قوتنا وعزيمتنا أمام المشكلات التي نواجهها. وبالرغم من أهمية هذه المشكلات وقسوتها, فهي ليست أخطر ما واجهنا في تاريخنا المعاصر, ولن تكون آخر ما نواجهه من مشكلات. وأعود فأقول إن تضخيم القضايا والأزمات يضعف من قدرتنا علي مواجهتها, وينال من إرادتنا لحلها, وهناك حقيقة واقعة شاء البعض أم أبي, وهي أن مصر أقوي من كل تلك المشكلات, وأعز من أن تلين أو تتهاون في مواجهة أي من الأزمات التي عبرت أجواء الحياة المصرية في الفترة الأخيرة. | |
إن العناوين الحمراء والسوداء التي تتصدر بعض الصحف تجعل بعضنا يشعر بالخوف علي مصر, والجزع مما أصابها. وإذا كان نفر منا قد تفرغوا للتحذير من أخطار سكنت خيالاتهم, واستبدت بأوهامهم, فإن هناك الملايين من المصريين في مسيرة النماء يزرعون ويحصدون وينتجون ويصنعون ويبدعون في شتي مناحي الحياة, وليس هذا من قبيل التهوين أو التصغير من أحداث وقعت هنا أو هناك, ولكن ما أريد أن أقوله: هو أنه ينبغي وضع هذه الأخطار في حجمها ونطاقها حتي يمكن مواجهتها بطريقة آمنة وصحيحة. وما أشد حاجتنا اليوم إلي إعادة فحص قدراتنا علي تشخيص المشكلات وتحليل أبعادها, حتي لانصاب بالشطط في التفسير ونتجاوز الحدود في التشخيص. وليتذكر الجميع في مختلف المحافل أننا نشكل وجدان أجيال تحلم بالحياة كما حلمنا, وتتطلع إلي المستقبل كما تطلعنا. ومن حق هؤلاء علينا أن نزرع الأمل في نفوسهم حفزا لهم علي العمل والجد والاجتهاد, وإلا فإننا نقدمهم فرائس سهلة للمتطرفين والمغامرين السياسيين. ففي الوقت الذي كانت فيه بعض الصحف المحلية ووسائل الإعلام الخارجية تتخذ من الأزمات ذريعة لنشر اليأس وفقدان الثقة في مصر, جاء صوت قوي من الخارج ملبيا نداء العقلاء والوطنيين وجموع المصريين في رفضهم الإرهاب والنيل من وحدتهم, ورفضهم أيضا كل محاولات الابتزاز السياسي. جاء صوت منتدي دافوس داعما موقف المصريين من أزماتهم العابرة. فلم يتراجع عن موعد انعقاده أو مكانه في العشرين من مايو الحالي بمدينة شرم الشيخ. ولم يتردد قرابة ألف وخمسمائة شخصية عالمية بارزة في المال والاقتصاد والسياسة والفكر والثقافة ومختلف الفنون عن قرار اتخذوه من قبل بالإجماع بعقد المنتدي علي أرض مصر, بعد منافسة قوية مع قوي إقليمية أخري سعت إليه, وهو التجمع الاقتصادي والمالي العالمي الذي يقف اليوم بثبات وثقة بين القوي الكبري التي تحدد مسيرة الاقتصاد العالمي. ولقد كشف الموقف الذي عبر عنه كلاوس شواب المدير التنفيذي لمنتدي دافوس ـ وأكد فيه عقد الملتقي في شرم الشيخ ـ عن حقيقتين مهمتين, هما: أولا: التضامن العالمي مع مصر في معركتها ضد الإرهاب الأسود, والدعم الكامل لمصر في مسيرتها التي أثارت حقد الإرهاب بحكمة قيادتها, وقوتها, وتضامنها, ومكانتها, وسياساتها المحبطة لخطط الإرهاب في المنطقة بأسرها.وهذا الموقف الدولي يعكس إدراك العالم حقيقة الموقف الشعبي والرسمي المصري من الإرهاب. فالمصريون الرافضون للغلو والتطرف, وما يؤدي إليه من ترويع الآمنين وتعطيل مسيرة حياتهم, جديرون باحترام العالم وتقديره, وفي الوقت الذي تتضافر فيه كل الجهود لمحاصرة الإرهاب والسيطرة عليه. جاء صوت دافوس متضامنا مع مصر في رفضه الإرهاب فكرا وممارسة. ثانيا: التقدير العالمي لما قطعته مصر من خطوات في برامج الإصلاح السياسي والاقتصادي. فخلال العام الماضي وحده حققت مصر إنجازات سياسية ودستورية إصلاحية هائلة, تمثل قاعدة صلبة لأي إصلاحات أخري قادمة. ومازالت تتابع بخطي ثابتة برنامجها الإصلاحي السياسي وفق رؤية واقعية تحقق مصالح الشعب وتجنبه مخاطر المغامرات السياسية. وبالنظر إلي برنامج الرئيس حسني مبارك الذي خاض به أول انتخابات رئاسية في تاريخ مصر, فإن مستقبل حياتنا السياسية يعبر عن طموحات لم تكن مطروحة من قبل. وعلي الصعيد الاقتصادي حققت مصر خطوات هائلة في التحول باقتصادها نحو آليات الاقتصاد الحر, وتحرير قدرات اقتصادها من القيود التي كبلته وأعاقت نموه طويلا. وبالفعل شهدنا خلال فترة قصيرة إصلاحا ضريبيا وجمركيا ومصرفيا غير مسبوق, وشهد مناخ الاستثمار مزايا وحوافز جديدة تجعل مصر سوقا جاذبة للمزيد من الاستثمارات الضرورية لتحقيق النمو الاقتصادي. ولاشك أن منتدي دافوس يدرك حقيقة ما يجري علي أرضنا, وهو بالتأكيد فرصة فريدة لتسويق مصر من منطلق أهميته الاقتصادية والسياسية. ومن هنا أقول بوضوح: إن قراءة قرار عقد المنتدي في شرم الشيخ من جانب الرأي العام في مصر قراءة صحيحة, تبدو ضرورية ومهمة في هذا التوقيت الذي يحاول فيه البعض النيل مما حققناه, ومما نعمل في سبيل استكمال تحقيقه. ولقد كتبت من قبل منبها إلي أهمية الثقة بقدراتنا ـ وهي كبيرة, علي تجاوز مشكلاتنا, وهي كثيرة أيضا. فالثقة والاعتزاز بما لدينا يعظم من قدراتنا, ويمهد طريقنا نحو تجاوز العقبات التي يضعها الإرهاب عليه, والتي يحاول البعض عن قصد أو دون قصد تضخيمها. لقد اختار الإرهاب مواقع جريمته مرات عديدة لينال من رافد مهم من روافد التنمية الاقتصادية. اختار الأماكن السياحية ومزارات السياح. لكي يحرم الاقتصاد المصري من عوائد هذا النشاط, بعد أن أصبحت السياحة صناعة استثمارية وضعت مصر ضمن الأسواق السياحية العالمية الواعدة. والحقيقة أن اختيار الإرهاب المزارات السياحية موضعا لضرباته الآثمة لايقف عند حدود حرمان مصر من عوائد السياحة التي حققت نموا كبيرا, وإنما يسعي أيضا إلي تصوير مصر أمام العالم علي أنها بلاد ينتفي فيها الأمن ويزداد فيها الاضطراب. ويسعي أيضا إلي حرمان الشباب من فرص عمل تحقق آماله وطموحاته, فيزيد من سخطه وفرص وقوعه فريسة للتطرف. إن السياحة المصرية عانت كثيرا من ضربات الإرهاب في الأقصر والقاهرة ودهب وطابا وشرم الشيخ. وبالرغم من كل هذه الضربات, كانت مصر, والسياحة, تنهض من جديد بعزم المصريين وحب العالم لبلادهم. وقد كان بوسع الأنشطة السياحية أن تخفف من معاناة الكثيرين وأن تفتح أبواب الرزق لكثيرين, لولا الإرهاب الذي تربص بهذا القطاع مرات عديدة. وأستطيع أن أقول: إن جهدنا في مواصلة ما بدأناه من إصلاحات في الاقتصاد والسياسة, وفي غيرهما, هو أبلغ رد علي المتربصين بنا من المتطرفين والمغامرين والإرهابيين. كما أنه رسالة تقدير للذين وثقوا بقدراتنا, ورأوا فينا أمة تقف مع الإنسانية في مواجهة أعدائها, فجاءوا يزرعون معنا الأمل في الأرض التي سفح الإرهاب عليها دماء الأبرياء. وليس أمامنا من سبيل إلا الثقة فيما لدينا وما نعمل من أجله, وهو أن تمضي بنا خطانا إلي الأمام برغم أصوات المرجفين ومؤامرات الأغبياء!. | |