اليقظة الكبري

عشية الاحتفال بذكري تحرير سيناء ضرب الإرهاب هذا الجزء الغالي من أرض الوطن, واغتال في خسة فرحة الأمة يوم عيدها, وسفك دماء عدد من المواطنين الأبرياء والزائرين السياح, وسقي رمال سيناء دما لم تعتده, بعد أن استخدم السلاح في غير موضعه. إذ لم يحمل مصري السلاح يوما في سيناء إلا دفاعا عنها, وجهادا من أجلها ضد المغتصبين والمعتدين. لقد سالت الدماء المصرية الزكية علي يد أعداء الدين والوطن والإنسانية. وجاءت تفجيرات سيناء في اليوم نفسه الذي كانت فيه كلمات الرئيس حسني مبارك في احتفال الأمة بنصرها باستعادة سيناء, تحمل التهنئة والتحذير من الإرهاب وخلط السياسة بالدين, وتشير إلي قوي الظلام التي تسعي إلي النيل من استقرار الوطن وازدهاره. ثم جاءت كلمات الرئيس مبارك, لشعب مصر في عيد العمال, ترجمة حقيقية لما يدور في قلوب المصريين وعقولهم, وما يفكرون فيه. وبعث برسالة إلي الأمة حملت السياسات التي تنفذها حكومة مصر لشعبها. وعكست قوة مصر وقدرتها علي الحركة والعمل في كل المجالات. وكانت ردا عمليا علي كل المتربصين والعابثين. فنحن مصممون علي تنفيذ برنامج الرئيس الانتخابي باعتباره وثيقة عهد للعمل والتغيير. وسنمضي في استكمال ديمقراطيتنا, ونبني مجتمعا عصريا, ونواصل العمل بكل جدية, ولدينا مؤشرات إيجابية علي أننا سوف نحقق ما نصبو إليه. لقد كان الرئيس مبارك واضحا وقويا في تشخيصه ورفضه الإرهاب الأعمي الذي لم يعد أحد محصنا ضد شروره, ولا ضد شرور قوي التعصب والغلو والتطرف, التي تحاول الوقيعة بين مسلمي مصر وأقباطها, والنيل من نسيج المجتمع الواحد, وقد أعاد القسم أمام الله والوطن بحفظ أمن مصر وأمان مواطنيها باعتبارهما خطا أحمر لايمكن تجاوزه. ووصلت رسائل الرئيس إلي قلوب المصريين قبل عقولهم, ومنحتهم ثقة ويقينا بالمستقبل, وقد وقف الجميع علي مضامينها خاصة رجال الدين ومفكري مصر وكتابها وأساتذة جامعاتها ورجال القضاء الشامخ. ولم يبق إلا أن نعمل معا, ثقة في القائد وفي رؤيته الحكيمة, بمواصلة كشف الإرهاب الذي لم يعد تعبيرا عن قلة انحرفت بالدين, أو انحرفت عنه وخانت الوطن, وخرجت علي إجماع الأمة. فالحقيقة التي تؤكدها ممارسات هؤلاء أننا في مواجهة عدو جديد وخطر شديد يتعلق بأمننا واقتصادنا واستقرار حياتنا. وسواء أكان مصدر هذا الخطر قلة أم كثرة من المصريين أو غير المصريين, فإن مسيرة المواجهة معه مازالت مستمرة. فثلاثة عشر عاما من عمليات الإرهاب في بلادنا قد روعت المواطنين, واغتالت أحلام الكثيرين وضيقت فرص العيش أمام جيل كامل. وقد استنفد الإرهاب منا جهدا كبيرا كنا أولي به لدفع حياة أمتنا خطوات إلي الأمام في السياسة والاقتصاد والعمران والاستقرار والازدهار. لكننا, وبرغم كل تلك العمليات الإرهابية, مضينا علي طريق واحد لم نحد عنه. وهو الآن يسير بنا إلي حيث تتحقق الأحلام والآمال. وهكذا كره الإرهاب فينا عزما لم يهن, وإرادة لم تستكن, واختار عملياته الأخيرة في وقت حققنا فيه الكثير, وعرفنا الطريق إلي حل ما نواجه من مشكلات. وفي تقديري أن مواجهة هذا العدو الذي يهددنا اليوم تقتضي حرمانه من تداعيات بعض الظواهر التي نعايشها الآن, وبعض الممارسات التي طفت علي سطح الحياة السياسية المصرية. فالهدف الأكبر لقوي الإرهاب هو نشر الاضطراب والخوف بين المصريين وفقدان الثقة في واقعهم وضياع أملهم في المستقبل. وهذا الإرهاب أضعف من أن ينال غايته من دولة وأمة توجد في نظامها وهويتها ثوابت تحكم حركتها, ولكنه مع ذلك يعمل علي إرباك حركتنا في الوصول إلي أهدافنا.. وهنا أقول إن بعض الممارسات, التي تزيد من حالة السخط في المجتمع وتثير الشكوك في مسعانا الحثيث نحو التطور والتقدم, تدعم شيئا غير قليل من أهداف الإرهاب الكامن في أرضنا والآخر المتربص بنا والمتآمر علينا عبر الحدود. فالنتائج النهائية لحوادث الإرهاب لاتقف عند حدود أرواح الضحايا ودماء المصابين فيها ـ علي الرغم من خطورة النتائج وقدسية الأرواح ـ وإنما تتعدي ذلك إلي إفساد وترويع علاقة متوازنة مستقرة بين الناس وماحولهم, والانتقال بهم من حالة الأمن إلي حالة الخوف التي تقضي علي كل طاقة وجهد مبدع أو منتج, وتحاول نشر مزاج ساخط وناقم بين أفراد المجتمع. وأستطيع أن أقول بوضوح إن العمليات الإرهابية سواء في دهب أو شرم الشيخ أو طابا أو القاهرة لن تحقق شيئا من أهداف الإجرام المعلنة. ولن تحيل مصر إلي إمارة تخضع لسلطان أحد سكان الجبال الفارين من العدالة والقصاص أو تعيد المصريين إلي حياة قرون خلت. أو تتجه بهم عكس حركة التاريخ. ولن يحقق الإرهاب ما يسعي إليه أيضا من إشاعة اليأس وتضخيم الآثار السلبية لبعض ممارساتنا في الداخل, وتشويه صورتنا الإيجابية في العالم. فهذه الصورة بنيناها بجهدنا وسعينا, وبواقعنا وتاريخنا, وحصدنا نتائجها قوة وقدرة في اقتصادنا ومساعينا السياسية, وسوف نتمسك بها ونثبت للعالم أننا جديرون بها. الفتنة ومخاطرها | |
والحقيقة أن الفتنة التي جاءت بها قلة من المسلمين والأقباط, أو حرضت عليها في الداخل أوالخارج, كانت تمنح الإرهاب فرصة لن يبلغها ولن تتحقق له.كما أن بعض الممارسات الإعلامية التي اقتربت من حالة الفوضي, تشكيكا في كل شئ, وتقويضا لكل جهد, تمنح فرصة أخري لهؤلاء. كذلك فإن المعالجات الخاطئة التي تتعلق اليوم بالسلطة القضائية من داخلها وخارجها, علي أهميتها في الضميرالوطني, تثير شيئا من القلق العام, وتضيف رصيدا من التوتر الذي يصب في أهداف الإرهاب. هذا إلي جانب ممارسات السياسيين التي تفقد المجتمع الثقة في نظامه السياسي وجدية أطرافه في عمل جاد وحقيقي, يحقق النفع العام بدلا من المصالح الشخصية التي تقترب بالإرهاب من أهدافه. ولا ننسي في هذا الصدد أن بعض المصريين بالخارج مسلمين وأقباطا يهيلون التراب علي كل مايحدث في مصر, في محاولة للفت النظر عبر التظاهر ضد بلادهم وليس بالتعاون معها لدرء المخاطر المحدقة بها, وهؤلاء يقفون مع الإرهابيين والمتطرفين في خندق واحد. إن مصر تدعو الجميع للعمل معها يدا بيد, لنأخذ مكاننا الصحيح في التطور علي الخريطة العالمية, وهنا أقول إنه لابد من اليقظة الكاملة والوعي التام بحقيقة مايراد لمصر ومايراد بها في الداخل والخارج. نريد يقظة لاتقف عند حدود مواجهة مرتكبي الأعمال الإرهابية وإنما تتجاوزها إلي مواجهة أهداف الإرهاب وما يمكن أن يستثمره من أخطاء في ممارساتنا. ولاشك أن هذه المواجهة تقتضي منا الحفاظ علي وحدة المجتمع وتماسكه, وهو أمر لايتناقض مع التعددية والتنوع في الرؤي والأفكار واختلاف الآراء حول تشخيص المشكلات وحلولها. فالغاية الكبري من التعدد والتنوع في الرؤي والأفكار هي الحفاظ علي المجتمع متوازنا, قويا, متماسكا يستعصي علي التشرذم والفرقة والانقسام والتناحر الطبقي أو الفئوي أو الطائفي. وأحسب أن بعض ممارساتنا الراهنة تدفع المجتمع صوب حالة من عدم التوازن التي تنتهي به إلي الضعف. وعلينا أن ندرك أن الأزمات برغم تنوعها تخاطب جمهورا واحدا لم يعد قادرا علي الفصل بين الأزمات مادامت أنها جميعا قد أصبحت سببا للتوتر والاحتقان. فلقد تعددت الاسباب والنتيجة واحدة. ولذلك فإن الأزمة التي تطفو علي سطح الحياة السياسية تشعل وقودا مختزنا من أزمات أخري. وفي تقديري أن أحداث الإسكندرية بالأمس القريب كانت صيحة إنذار قوية, تشير إلي خطر قريب يهدد وحدة المجتمع وتماسكه, وتكشف عن أخطاء تراكمت في علاج أزمة قائمة عبرت عن نفسها مرات ومرات. ونحن ندرك جميعا أن هناك أطرافا عديدة يسعدها ألا يغلق ملف الطائفية في مصر, وتعمل بكل جهد ممكن علي افتعال أزمات وتضخيم أحداث صغيرة تحدث في كل المجتمعات وفي جميع الأوقات. وقد كان بمقدور المجتمع المصري أن يتجاوزها لولا حالة التوتر والاحتقان السائدة. وهي حالة تعددت مصادرها وتنوعت أسبابها ولكنها جميعا توفر مناخا قابلا للاشتعال السريع. ثم تأتي الأحداث التي وضعت السلطة القضائية, بجلالها وقدسيتها وأهميتها, في دائرة الحوار والتقييم الذي ينطوي علي احتمالات الخطأ والصواب. ومشكلة القضاة اليوم تكمن في السياق السياسي العام الذي تطرح فيه قضية استقلالهم.فلقد طرح الأمر في سياق تربص الدولة بالقضاة واستعدادها للانقضاض علي استقلالهم وصلاحياتهم. وأصبح هذا السياق هو الحاكم للعلاقة بين الدولة والقضاة, حيث بدت أزمة ثقة صغيرة بين الطرفين تحولت مع الأيام إلي أزمة أكبر. والحقيقة أن القضاة والدولة معا يتحملان مسئولية الأزمة الراهنة في العلاقة بينهما ومدي تطورها وحجم تصعيدها. فالدولة التي أقدمت علي الكثير من القرارات السياسية المهمة, ومنها حل مجلس الشعب مرتين, نزولا علي أحكام القضاء واحتراما لها, والقضاة الذين أنزلهم المجتمع والدولة منزلتهم التي تليق برسالتهم وأوكل إليهم ميزان العدالة, يظهران اليوم وكأنهما عاجزان عن حل خلاف طارئ نشأ بينهما. وبدلا من أن يخضع هذا الخلاف لإطار من الحل يليق بالقضاة ومكانتهم فإن القضية طرحت علي الرأي العام واستخدمت فيها المسيرات والحشود. وهكذا دخلت أطراف من الداخل والخارج في الأزمة, بالرغم من أنها لا هي من القضاة, ولا هي من الدولة, ولايعنيها الخلاف بين الطرفين بقدر ما يعنيها استثماره في تحقيق أهداف ومآرب أخري. ولذلك فإن المجتمع المصري بأمنه واستقراره هو الذي يدفع اليوم ثمن استمرار الوضع الراهن, حيث تضيف هذه الأزمة شحنة إضافية من التوتر السائد الآن إلي جانب الأزمات الأخري القائمة. وفي سياق هذه الأزمات يبرز دور وسائل الإعلام, التي فيما يبدو قد أصبحت أكثر اهتماما بالظواهر السلبية في المجتمع, ضمانا لشعبية تحقق لها الانتشار. وبطبيعة الحال فإنه لايمكن لأحد أن يلوم وسائل الإعلام علي تقديم تغطية موسعة لأحداث ساخنة. غير أن عوامل الإبراز والصياغات اللغوية تزيد من سلبية هذه الظواهر في الوعي العام. ولو أن وسائل الإعلام أقدمت علي تغطية موضوعية لما يشهده المجتمع المصري من حراك ونمو, لكان الرأي العام اليوم أكثر إدراكا ووعيا بحقيقة ما يجري بعيوبه ومميزاته. والحقيقة أن الصحافة المحلية والفضائيات الخارجية تتحمل المسئولية أكثر من غيرها, ولو أن أحدا رسم لنا ملامح المجتمع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المصري, اعتمادا علي ما تنشره بعض الصحف المحلية وما تبثه بعض الفضائيات العربية, لكانت النتيجة مجتمعا تستحيل الحياة فيه. وهي صورة مغايرة للواقع الذي نعيشه برغم المشكلات المعروفة. فمصر مازالت تنتج وتبدع وتواجه مشكلاتها وتحرز في كل يوم تقدما ونموا وتطورا وهي تدرك جيدا حجم مشكلاتها. إن هذه الممارسات الصحفية والإعلامية تطرح بشدة مسئولية الكلمة المنشورة أو المذاعة, وهي مسئولية طرحتها دول سبقتنا طويلا في التطور الديمقراطي وحرية التعبير. وحين ننادي بالالتزام بهذه المسئولية فإنني أري أن هذه الدعوة يجب أن يقوم بها الصحفيون والإعلاميون طوعا دون إكراه أو امتثالا لسلطة من خارج الصحافة, ودون مساس بمستويات الحرية التي بلغناها. فقط أذكر الجميع بجيل الشباب الذي يتعين أن نفتح أمامه أبواب الأمل في غد أفضل. وألا تكون الصحافة مصدرا للتوتر والقلق له. فالويل كل الويل لقلب يتجرع كل يوم من السم قطرة. وإنني أربأ بالصحافة أن تكون مصدرا لتلك السموم التي تجعله نهبا لأفكار التطرف وتدفعه إلي الإرهاب. | |