حوارات

الرئيس جاك شيراك في حوار شامل لـ الأهرام‏:‏ مصر اختارت الحداثة والانفتاح‏..‏ وفرنسا تصاحبها علي هذا الدرب

أجري الحوار في باريس‏:‏ أسـامة سـرايا

عبر القرون الماضية ربطت بين مصر وفرنسا روابط ثقافية وتاريخية شديدة الخصوصية‏..‏ ظلت مصر خلالها بحضارتها العريقة وتجربتها الحديثة الثرية إلي جانب آفاق تميزها تمثل حالة خاصة في الفكر الفرنسي‏..‏ ويكفي كشاهد علي ذلك‏..‏ تلك المسلة المصرية الشامخة في قلب العاصمة الفرنسية لتعبر بقوة عن حالة تمازج أوروبي ـ متوسطي غاية في التميز‏,‏ مع ولع فرنسي بكل ما هو مصري‏..‏ فقد أسهم الفرنسيون بقوة في إعادة اكتشاف الحضارة المصرية القديمة‏,‏ بنفس قدر الحماس الذي أسهموا من خلاله في دعم مسيرة مصر نحو الحداثة‏..‏ مع كل التقدير لجهودها المتواصلة للارتقاء بواقعها‏,‏ أملا في مسايرة التطورات العالمية وقوتها في مواصلة التقدم نحو الحداثة بقدر كبير من الحنكة والعزيمة‏.‏

تفاصيل ذاك الإرث الثقافي المتبادل حملتها معي في طريقي لمقابلة الرئيس الفرنسي جاك شيراك قبيل زيارته لمصر‏,‏ التي تبدأ اليوم‏..‏ وهي المقابلة التي استغرقت ضعف وقتها المقرر‏..‏ فقد تفضل فخامته بأناقة فرنسية لايمكن إنكارها‏,‏ بالإجابة عن جميع الأسئلة التي كنت أحملها معي‏..‏ وعلي الرغم من ضيق وقته وقدر كبير من الضغوط الداخلية التي تشهدها فرنسا الآن مع جهودها لحل أزمة البطالة‏..‏ فإن هذا لم يمنع الرئيس الفرنسي ـ الذي حمل داخله اختصارا لعشق الفرنسيين لمصر واعجابا واحتراما شديدين بشخص الرئيس حسني مبارك ـ قدم فخامته إجابات وافية عن كل ما كان في جعبتي من تساؤلات تشمل جميع القضايا الملحة التي نواجهها اليوم‏.‏ مع قدرة الرئيس شيراك المذهلة علي حسن الضيافة‏,‏ وهي ميزة الفرنسيين المعروفين باحترامهم الشديد للآخرين‏..‏ بالإضافة إلي سماته الشخصية التي تتسم بحرص شديد‏,‏ علي التعامل ببساطة وحميمية مع ضيوفه‏..‏ تحدثنا في محيط من الود والاحترام حول رؤيته لمصر الآن‏,‏ وهي تتجه بخطي ثابتة نحو المستقبل فهي في نظره إحدي الدول الأساسية في عالم الغد‏,‏ وهي دولة محورية في استقرار المنطقة وشريك كامل وبناء في خدمة السلام والاستقرار والتنمية‏..‏ وقال لي عن علاقته بالرئيس مبارك‏,‏ أنها بدأت منذ أن كان قائدا للقوات الجوية المصرية‏,‏ وأضحت اليوم إحدي أهم علاقات الصداقة السياسية في العالم التي تتميز بحوار مفتوح وحر‏,‏ حول جميع القضايا وتصورات مشتركة للتحديات الدولية‏,‏ وكيفية مواجهتها كشركاء متكافئين مع احترام كل منا لهوية الآخر وقناعاته وتقديره‏,‏ خاصة من الرئيس شيراك لجهود مبارك في محاربة آفة الإرهاب الدولية ودفعه لمصر نحو الديمقراطية والانفتاح علي الآخر‏.‏

الأهرام‏:‏ فخامة الرئيس‏..‏ أهلا وسهلا بكم في مصر‏,‏ وشكرا لكم علي استقبالكم لنا‏.‏
منذ عشر سنوات‏,‏ وفي خلال هذا الشهر نفسه‏..‏ كنتم قد قمتم بأول زيارة لكم لمصر بصفتكم رئيسا للجمهورية‏,‏ ومن ذلك الوقت حدثت تغييرات داخلية وخارجية كبيرة‏..‏ فكيف تقومون زيارتكم الحالية لمصر‏..‏ لاسيما أنها تتزامن مع مرحلة شديدة الاضطراب تشهدها منطقة الشرق الأوسط؟
شيراك‏:‏ أود بداية أن أقول إنني سعيد جدا بأن يتسني لي التحدث عبر صحيفة عريقة كصحيفة الأهرام بمناسبة زيارتي لمصر‏,‏ البلد الذي أكن له الود والإعجاب‏,‏ والذي لا أتردد في التعبير عنه بما فيه الكفاية‏.‏ كما أنني حريص علي التعبير عن فرحة غامرة بعودتي إلي مصر تلبية لدعوة صديقي الرئيس حسني مبارك‏.‏

كما أود أن أعرب عن عميق تقديري واحترامي للشعب المصري‏,‏ فهو شعب شجاع يتحلي بالفطنة‏,‏ ويضطلع بمسئولياته‏,‏ وهي مسئوليات جسيمة في الشرق الأوسط‏,‏ كما أنه علي ملتقي طرق تتشابك ما بين إفريقيا وآسيا‏,‏ وتقع علي عاتقه مسئولية خاصة في الإبقاء علي التوازن العام في الشرق الأوسط‏,‏ وهي منطقة جذابة ومحببة وعسيرة‏,‏ إنها أرض حضارة عميقة الجذور‏.‏ولهذه الزيارة هدفان‏:‏ إنها ترمي في المقام الأول إلي إعطاء دفع جديد لعلاقاتنا الثنائية الممتازة التي ازدادت صلابة علي مدي سنين طويلة بفضل أواصر الصداقة المتينة المبنية علي الثقة التي تربط بين القادة‏,‏ والتي يعززها تبادل مطرد لوجهات النظر علي مستوي رفيع‏,‏ تبادل بات الآن يفضي إلي مشاورات دبلوماسية شاملة‏.‏ إن آخر زيارة لي لمصر تعود إلي أربعة أعوام تقريبا‏,‏ ومنذ ذلك الحين شهدت مصر تحولات ضخمة‏.‏ ففي مواجهة ما يصادفها من تحديات كبري اختارت الحداثة والانفتاح‏,‏ وفرنسا ترغب في مصاحبتها علي هذا الدرب‏,‏ وبالتالي حان الوقت لنستعرض أحوال التعاون القائم فيما بيننا كي نعطيه ديناميكية جديدة علي الصعيد الثقافي‏,‏ وأيضا علي الصعيد الاقتصادي‏.‏

ومن جهة أخري أنتم تدركون الظروف الدولية الراهنة‏,‏ حيث يتزايد التوتر في المنطقة‏,‏ ومعه أسباب إساءة فهم الشعوب لبعضها بعضا‏,‏ شعوب تنتمي إلي ثقافات متباينة‏.‏ إن مصر بلد عظيم يضطلع بدور أساسي في استقرار الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط وإفريقيا‏.‏ إن مصر تشاطر فرنسا القيم نفسها‏,‏ وهي كثيرة ومبنية علي الحوار واحترام الآخر‏,‏ فضلا عن أنها تمثل بالنسبة لنا شريكا كاملا وبناء في خدمة السلام والاستقرار والتنمية‏,‏ وبالتالي بات من المهم لبلدينا أن يتشاورا باستمرار‏,‏ وستمثل زيارتي فرصة مناسبة لتبادل وجهات النظر‏,‏ ولتصور كيفية التحرك في مواجهة التحديات الجديدة‏.‏

الأهرام‏:‏ تأتي زيارتكم إلي مصر في وقت شهدت فيه البلاد إصلاحات مهمة‏,‏ أطلقها الرئيس مبارك‏,‏ في المجالات السياسية والاقتصادية‏..‏ فكيف تنظرون إلي هذه الإصلاحات؟
شيراك‏:‏ إن المجتمع المصري يشهد بالفعل‏,‏ منذ بعض الوقت‏,‏ تحولا حقيقيا‏,‏ فالاقتصاد يتجه نحو الحداثة‏,‏ وينفتح علي الأسواق العالمية‏,‏ والمؤسسات باتت تتجدد هي أيضا‏,‏ وقد تميز عام‏2005‏ بنقاش سياسي مستفيض عبر إصلاح النظام الانتخابي لرئيس الدولة‏,‏ واستتبع بانتخابات رئاسية وتشريعية‏.‏ إن هذه التغييرات التي أطلقت بمبادرة من الرئيس مبارك‏,‏ تعد مثمرة‏,‏ وأرغب في تقديم مساندة فرنسا الكاملة من أجل تعميقها‏,‏ ففرنسا موطن حقوق الإنسان‏,‏ وهي تنظر إلي الديمقراطية كقيمة شاملة عليا‏,‏ لكنها تتفهم أيضا وجوب قيام كل جهة علي حدة بإجراء هذه الإصلاحات وفق التوقيت الذي يناسبها بالارتكاز إلي السيادة‏,‏ وعبر احترام هوية كل منها‏.‏ إن التغيير كان ضروريا لكي تتكيف مصر مع الواقع الجديد‏,‏ علي اختلاف أشكاله‏,‏ في عالم يتوق إلي الشمولية‏,‏ ولاشك أن هذا التغيير سيتواصل وسيتسع نطاقه‏,‏ والمهم في الأمر هو أن يتسني لهذا البلد‏,‏ معتمدا علي السيادة والديمقراطية‏,‏ رصد الدروب التي تفضي إلي التحديث‏,‏ وتحديد التوقيت الملائم لها‏,‏ ولقد أدركت أن هذه هي نية الرئيس مبارك‏,‏ النية المستهدفة من النقاش الذي اقترحه في أواخر شهر ديسمبر من أجل إجراء الإصلاحات الدستورية في مصر‏.‏

الأهرام‏:‏ لقد عرفتم الرئيس مبارك منذ أن كان يشغل منصب نائب الرئيس‏,‏ وأنتم تشغلون منصب رئيس بلدية باريس‏,‏ فكيف تقومون العلاقات القائمة بينكما‏,‏ إذ أضحت اليوم إحدي أهم علاقات الصداقة السياسية في العالم؟ وما هي العناصر الأساسية في التحليلات والرؤي التي تتقاسمونها مع الرئيس مبارك؟
شيراك‏:‏ بالفعل لقد مضي أكثر من ثلاثين عاما علي معرفتي بالرئيس مبارك‏,‏ وقد التقيت به للمرة الأولي علي ما أظن‏,‏ عندما كان قائدا للقوات الجوية المصرية‏,‏ ومن ثم التقيت به مرارا عندما كان نائبا للرئيس‏.‏ إنه رجل أكن له كثيرا من الاحترام منذ زمن طويل‏,‏ كانت دائما تربطنا مشاعر الاستلطاف منذ اللحظات الأولي‏,‏ وكان يسود دائما فيما بيننا وئام وتوافق حول جميع المسائل التي نتطرق لها‏.‏ إن محادثاتنا تتم دوما في أجواء ودية وبحفاوة حارة‏,‏ وهي أشبه بلقاءات بين صديقين قديمين‏.‏ إننا نتناول جميع القضايا بكثير من الحرية‏,‏ ويقوم كل منا بإبداء رأيه حول كل الموضوعات‏.‏

إن هذه العلاقة القائمة علي الثقة‏,‏ توطدها بين حين وآخر لقاءات واتصالات هاتفية متكررة‏,‏ وعلي مر هذه السنين لم نكف عن التحدث معا في جميع مسائل العصر الكبري‏,‏ سواء كانت مسألة السلام في الشرق الأوسط‏,‏ أو استراتيجية مكافحة الإرهاب‏,‏ أو كيفية بناء الجسور بين ضفتي المتوسط‏.‏ إننا نتشارك الحرص نفسه علي سلام واستقرار المنطقة‏,‏ وهو حرص راسخ في اقتناع مفاده أن الصراعات المسلحة لم تشكل يوما الحل‏.‏ إن الرئيس مبارك رجل حكمة وخبرة‏,‏ والشرق الأوسط بحاجة لخبرته‏,‏ والحوار معه جعلني أدرك كثيرا الحساسيات في هذه المنطقة‏,‏ ونحن أيضا لدينا تصور مشترك للتحديات ولكيفية مواجهتها‏,‏ يقرب فيما بيننا‏.‏

ويتميز هذا التصور بداية بإرادة التحاور كشركاء متكافئين‏,‏ مع احترام ما يتميز به كل منا من حيث هويته وقناعاته‏..‏

إننا نتقاسم القناعة بوجوب أن يكون القانون الدولي قانونا لنا جميعا‏,‏ مما يفترض تحديدا تطبيقا كليا لقرارات الأمم المتحدة‏.‏ وفي عالم تطغي عليه الشمولية بات يتأكد أن تعددية الأطراف هي الوسيلة المثلي لتنظيم العلاقات الدولية‏.‏

وأخيرا لدينا نحن الاثنين اقتناع بأن المشاركة القائمة بين بلدينا من شأنها أن تسهم في انتشار ذهنية الحوار‏,‏ والتوافق والصلح الذي تحتاجه بشدة شعوب هذه المنطقة من أجل إقامة السلام والحفاظ علي الاستقرار والترويج للتنمية‏.‏

الأهرام‏:‏ إن العلاقات بين فرنسا ومصر تعتبر دائما علاقات ممتازة‏,‏ وعلي المستوي الاقتصادي تعد فرنسا من بين الدول الخمس الأوائل المستثمرة في مصر‏..‏ فما هي المشروعات الاقتصادية الجديدة التي تعتزمون مناقشتها مع الرئيس مبارك؟
شيراك‏:‏ إن الديناميكية والتنوع يميزان بالفعل مبادلاتنا الاقتصادية‏,‏ وتعد فرنسا اليوم الشريك التجاري الثالث لمصر‏,‏ وفي عام‏2005‏ وحده زادت نسبة التجارة علي المستوي الثنائي ـ من واردات وصادرات ـ بقدر‏50%,‏ وتعكس هذه النتيجة بالأخص أثر عقد الإمداد بالغاز المسال‏,‏ الموقع مع شركة غاز فرنسا الذي وضع موضع التنفيذ‏,‏ وهو أهم عقد أنجز بين بلدينا حتي اليوم‏,‏ وبموجب هذا العقد سوف توفر مصر ما يناهز‏10%‏ من احتياجات فرنسا من الغاز‏,‏ وبذلك باتت تتبوأ موقعا أساسيا في تغطية احتياجاتنا من الطاقة‏,‏ إنه لمثل حميد عن التعاون الصناعي الذي سيكفل‏,‏ علاوة علي ذلك‏,‏ إعادة الاتزان في المبادلات التجارية بين بلدينا‏.‏

ومن ناحية أخري أصبح لفرنسا وجود مؤكد في قطاع الخدمات‏,‏ فالشركات الفرنسية تتبع بالفعل سياسة تمركز واستقرار في السوق المصرية‏,‏ وذلك في كم واسع من النشاطات مثل‏:‏ السياحة‏,‏ والمخازن الكبري‏,‏ والنقل‏,‏ وخدمات المعلوماتية‏,‏ والخدمات المالية‏.‏

وأخيرا‏..‏ وبالأخص‏,‏ لقد أصبحت فرنسا ثاني مستثمر أجنبي في مصر بعد الولايات المتحدة‏,‏ مع وجود ما يقرب من‏90‏ شركة توظف‏36‏ ألف مصري‏,‏ وبإسهامات تقدر بملياري يورو تقريبا‏,‏ إنها موجة متصاعدة من المستثمرين الفرنسيين الذين يتدفقون باستمرار وقد جذبتهم مصر بنموها وبموقعها‏..‏ فهي تقع علي مفترق طرق مؤدية إلي عدد من مناطق التبادل التجاري الحر‏.‏ إن مصر تنفتح وتتحرر‏,‏ مما يقود إلي تحول سريع في أجواء عالم الأعمال التجارية‏.‏

وفيما يتعلق بمشاريع ملموسة سوف أتطرق مع الرئيس مبارك إلي موضوع إنشاء الخط الثالث لمترو القاهرة‏,‏ فالشركات الفرنسية تملك مؤهلات كثيرة في هذا الخصوص‏,‏ ولدي فرنسا استعداد لتقديم إسهام كبير في هذا المشروع‏.‏

وعليه أود القول إن فرنسا عازمة علي المراهنة علي مصر‏,‏ وهو رهان رابح‏,‏ ومن أجل الإبقاء علي هذه الديناميكية‏,‏ سوف يرافقني وفد من رجال الأعمال‏,‏ وبصحبتهم سأقوم بتأسيس مجلس فرنسا ومصر الرئاسي للأعمال في قلب مدينة التقنيات الأكثر حداثة القرية الذكية وستكون مهمة هذا المجلس تدعيم المشاركة التي تقوم عليها علاقتنا بكامل أبعادها‏,‏ وسوف نتطرق إلي آفاق ممارسة الوكالة الفرنسية للتنمية لنشاطها في مصر‏.‏

الأهرام‏:‏ فخامة الرئيس‏..‏ أنتم تتحدثون دائما عن ضرورة الحوار بين الحضارات‏,‏ ولقد كان دائما لفرنسا دورها في تعزيز احترام ثقافة الآخر‏,‏ والآن سوف تفتتحون الجامعة الفرنسية في مصر‏,‏ فما هو تصوركم للدور الذي ستضطلع به هذه الجامعة للحفاظ علي حوار الثقافات بين فرنسا ومصر من جهة‏,‏ وبين فرنسا ومصر وباقي أقطار العالم من جهة أخري؟ وما هي نواحي التعاون في المجال التربوي التي ستتباحثونها مع الرئيس مبارك؟

الرئيس شيراك يرحب برئيس التحرير قبل بداية الحوار
شيراك‏:‏ إنني مقتنع بوجوب إقامة حوار بين الثقافات‏,‏ بداية لأنه اقتناع شخصي لدي‏,‏ فأنا أهوي تاريخ الشرق الأوسط وحضاراته‏,‏ وإني ملم به بعض الشيء‏,‏ وهذا الإلمام بالتاريخ دفعني بشكل طبيعي إلي احترام البشر‏,‏ وعندما نحترم البشر لابد من أن نتفهمهم علي نحو أفضل‏,‏ ويتبين للناس جيدا متي يكونون موضع تقدير ووقار‏,‏ ومتي نقلل من اعتبارهم‏.‏ ومن هذا المنطلق فإن المبادلات الثقافية واللغوية هي بالفعل أمور أساسية من أجل تعزيز التلاحم بين الشعوب علي ضفتي البحر الأبيض المتوسط‏.‏ وفي هذا الخصوص سوف يمثل الافتتاح الرسمي للجامعة الفرنسية في مصر أحد أهم وأقوي محطات زيارتي هذه‏.‏ إن هذه الجامعة المصرية التي تدرس باللغة الفرنسية تمثل مشروعا قائما منذ عشر سنوات‏,‏ وقد بدأ سير العمل فيها منذ ثلاثة أعوام‏,‏ فعرفت كيف تستقطب الجمهور‏,‏ وأسست شهرة لها بفضل نوعية المواد التعليمية الرفيعة المستوي‏.‏ إنها المؤسسة المصرية الوحيدة التي تعتمد فيها الفرنسية كلغة تدريس‏,‏ إلي جانب العربية والإنجليزية‏.‏ وفي نهاية مرحلة الدراسة تمنح الجامعة شهادات الدبلوم العليا التي تصادق عليها أيضا جامعات فرنسية بحيث يتسني للطلاب متابعة دراستهم في فرنسا أو في أوروبا بسهولة أكبر‏.‏ ومن البديهي القول إن شهادات الدبلوم العليا هذه هي الوسيلة المفضلة لممارسة مهنة مستقبلية معينة لاسيما في تلك الشركات الفرنسية التي تستقر بأعداد متزايدة في بلادكم‏,‏ كما أن الجامعة الفرنسية في مصر لم تواجه صعوبة في جذب اهتمام متبرعين ومستثمرين من القطاع الخاص‏,‏ أحرص علي توجيه تحية إكرام خاصة لهم‏.‏ وعلاوة علي ما سبق فإن مصر وفرنسا تجمعهما روابط ثقافية قوية ووطيدة من نوع خاص‏,‏ سيكون من شأن هذه الزيارة تدعيمها وتعزيزها‏.‏ إن مصر تبهر فرنسا‏,‏ وهي بمثابة حلم لها‏,‏ فما كان قد حل بعاصمتنا لولا المسلة المصرية في ساحة الكونكورد التي أهداها لها محمد علي؟ وفرنسا من جهتها كانت ولاتزال تأتي إلي مصر بأفضل ما لديها‏,‏ فشامبليون عندما فك الرموز الهيروغليفية أسهم في جعل المصريين يستردون ماضيهم‏,‏ وفي القرن الماضي أسهم الفرنسيون في نشاط القطاع الصناعي‏,‏ وفي مسيرة مصر نحو الحداثة علي جميع الأصعدة الزراعية منها‏,‏ والطبية‏,‏ والتعليمية‏..‏ واليوم لايزال الشغف بمصر يخلب العقول في فرنسا‏.‏ إن التعاون القائم بيننا في مجال الآثار لا نظير له‏,‏ وهذا الانبهار ليس سمة الباحثين المتخصصين في مصر القديمة‏,‏ بل إنه منتشر أيضا لدي الجمهور العريض بحيث يزور مصر‏500‏ ألف سائح فرنسي سنويا‏,‏ فضلا عن آلاف الفرنسيين المغتربين الذين يعيشون في هذا البلد‏.‏ إن هذه العناصر كلها تسهم بشكل أساسي في إثراء العلاقة القائمة مع الجانب الآخر من المتوسط‏.‏

الأهرام‏:‏ هل لديكم رسالة توجهونها للشعب المصري؟
شيراك‏:‏ هناك دائما رسالة نوجهها للأصدقاء‏,‏ إنها رسالة احترام وثقة‏..‏ احترام لما يمثله الشعب المصري‏,‏ وثقة بمستقبل هذا الشعب‏.‏ إن مصر تتجه بكثير من الحيوية والحنكة نحو التقدم والحداثة‏,‏ ويسعدني جدا‏,‏ علي سبيل المثال‏,‏ أن أزور القرية الذكية لأنه أمر يتطابق تماما مع ما يبغي الشعب المصري تحقيقه‏,‏ ومطابق لما هو قادر علي تحقيقه‏,‏ فهو قد عقد العزم علي النهوض بالبلاد لتصبح قوية وحديثة‏,‏ ونظرا لتزايد النمو السكاني الزاخر سنويا سيتعين عليه التكيف باستمرار‏.‏

إذن هي ثقة بمستقبل مصر وبمستقبل الشعب المصري‏,‏ وأقصد الحداثة في المجال الاقتصادي‏,‏ مصر الهائلة‏,‏ لأنها ستصبح يوما إحدي الدول الأساسية في عالم الغد‏,‏ وهي باعتقادي تضطلع بهذه المسئولية بكثير من الحكمة‏.‏

الأهرام‏:‏ علي مر السنين‏,‏ كان بينكم وبين الرئيس مبارك‏,‏ حوار مستمر حول مشكلات الشرق الأوسط والمشكلات العالمية‏,‏ التي كان لديكم تجاهها آراء متقاربة‏.‏ فكيف تنظرون إلي إمكانية تنسيق الجهود فيما بينكما سعيا لإخراج المنطقة من دوامة العنف الجهنمية؟
شيراك‏:‏ ليس هناك من حل لمعضلة العلاقات هذه بين إسرائيل والفلسطينيين سوي اتفاق‏..‏ اتفاق لايمكن أن يتم إلا بعد إقامة حوار‏.‏ لقد تحقق في هذا المجال بعض التقدم‏,‏ ثم حدث تراجع‏.‏ من غير الممكن أن يفرض وضع ما علي أحد هذين الشعبين‏.‏ ويتعين التفاوض حول اتفاق‏.‏ مما لاشك فيه‏,‏ أن مسألة السلام في الشرق الأوسط تشكل موضوعا للتباحث بيني وبين الرئيس مبارك‏,‏ بشكل مستفيض‏,‏ وقد تبين لنا دائما أن هناك توافقا كبيرا فيما لدينا من وجهات نظر‏.‏ فمنذ سنوات طويلة‏,‏ ونحن نردد أن السلام في المنطقة يمر عبر قيام دولتين تعيشان جنبا إلي جنب‏,‏ بأمان‏,‏ وفي ظل احترام ووقار تكنه كل منهما للأخري‏.‏ إن فرنسا من منطلق صداقتها للشعبين‏,‏ الفلسطيني والإسرائيلي‏,‏ ترغب في أن يتسني للفلسطينيين أن يحققوا عمليا تطلعاتهم المشروعة بإنشاء دولة تتمتع بالسيادة‏,‏ وللإسرائيليين أن ينعموا بالأمان الذي يحق لهم فيها‏.‏ ولكننا ندرك أيضا أن المفاوضات وحدها كفيلة بأن تسمح بتحقيق تقدم‏,‏ وبأن ما من شيء دائم يمكن بناؤه علي العنف‏.‏ لذا فإن فرنسا ومصر ساندتا علي الدوام الجهود التي بذلت منذ اجتماع أوسلو‏,‏ لكي يتم التوصل إلي حل متفاوض عليه ودائم‏,‏ كما أنه
ما قدمتا الدعم لجهود اللجنة الرباعية بغية الترويج لحل متزن وواقعي‏,‏ يندرج في إطار خريطة الطريق‏,‏ فضلا عن مساندتهما‏,‏ علي نحو بناء‏,‏ للانسحاب الاسرائيلي من غزة‏,‏ الذي‏,‏ بغض النظر عن بعده الأحادي الجانب‏,‏ كان من المقدر له أن يمثل خطوة باتجاه تنفيذ خريطة الطريق‏.‏ وأود أن أتوجه بتحية تقدير خاص وإكرام للدور الذي اضطلعت به مصر في غزة‏.‏ واليوم‏,‏ بعد الانتخابات الإسرائيلية‏,‏ يتعين علي المجموعة الدولية أن تعود مجددا للالتزام بقوة‏,‏ علي هذا الصعيد‏.‏ وبالطبع سوف ننكب علي التفكير معا في هذا الأمر‏.‏

الأهرام‏:‏ فوز حماس في الانتخابات الديمقراطية والحرة التي أجريت في فلسطين‏,‏ أثار اعتراض بعض الدول‏,‏ وبالأخص إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي‏.‏ وأنتم تطالبون حماس باحترام القواعد القانونية التي تفرض نفسها علي مستوي العالم‏,‏ ومنها التخلي رسميا عن العنف‏,‏ ولكن إسرائيل مستمرة في ممارسة العنف ضد الفلسطينيين‏,‏ وإضعاف الحكومة الجديدة‏.‏ فما هو موقف فرنسا إزاء السياسة الإسرائيلية المعادية لحماس؟ وهل تعتقدون أنه لاتزال هناك فرصة لإنقاذ عملية السلام؟
شيراك‏:‏ لقد أجريت انتخابات ديمقراطية وهذا ما اختاره الفلسطينيون‏.‏ إن فرنسا تحترم هذا الخيار‏.‏ ولكن‏,‏ في المقابل‏,‏ باتت مسألة الإعانات الموجهة للسلطة الفلسطينية مطروحة‏,‏ وقد أدي وصول حركة حماس للسلطة إلي طرح قضية المساعدات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية‏,‏ حيث إن حماس مدرجة علي القائمة الأوروبية للمنظمات الإرهابية لأنها تدعو إلي ـ وتمارس ـ الإرهاب كأداة للعمل السياسي‏,‏ وفي هذا الشأن فإن فرنسا لها نفس موقف أعضاء اللجنة الرباعية الدولية‏,‏ وأي اتصال بحكومة حماس يجب أن يسبقه احترام ثلاثة مبادئ‏:‏ الاعتراف بإسرائيل‏,‏ والتخلي عن العنف‏,‏ والاعتراف بالاتفاقات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل خاصة اتفاق أوسلو‏.‏ نحن نعلم أيضا أن الوضع في الأراضي الفلسطينية في غاية الصعوبة وأنه من الضروري استمرار المساعدات الدولية‏,‏ وبالتالي فقد قرر الاتحاد الأوروبي ـ وهو الطرف الدولي الذي يقدم أكبر مساعدات للفلسطينيين منذ اتفاق أوسلو ـ استمرار تقديم المساعدات الانسانية من خلال الأونروا والمنظمات غير الحكومية‏,‏ وهذه المساعدات تمثل نصف قيمة المساعدات التي كانت تقدمها أوروبا للأراضي الفلسطينية‏,‏ أما فيما يتعلق بالدعم الاقتصادي المباشر للسلطة الفلسطينية فإننا نعيد النظر فيه حاليا‏,‏ وسنسعي للاستجابة للاحتياجات الملحة للشعب الفلسطيني‏,‏ وسوف أناقش هذه القضية بالتفصيل مع محمود عباس الذي سأستقبله في باريس مع نهاية الشهر الحالي‏.‏

وفيما يخص الآمال المعلقة علي السلام‏,‏ فإن وصول حماس إلي السلطة يغير بكل تأكيد المعادلة الإقليمية‏.‏ ومن المبكر التكهن بما سيكون لها من تداعيات حقيقية علي آفاق التسوية في المنطقة‏,‏ حيث كل شيء مؤهل كما تعلمون للتطور بسرعة بالغة‏.‏

وفي الوقت الحاضر‏,‏ ندعو حماس إلي تفهم أن دروب العنف تقود إلي طريق مسدود‏,‏ وإلي مواصلة انتقالها نحو العمل السياسي عبر الإبقاء علي احترامها للهدنة والالتزام بالتخلي عن العنف والاعتراف بإسرائيل‏.‏ لقد قبلت حماس المشاركة في الانتخابات‏,‏ فبات يتعين عليها من الآن فصاعدا المضي في هذا المنطق حتي نهايته‏,‏ إذ لا وجود لبديل آخر‏.‏

.‏ ولكننا نقول أيضا للإسرائيليين إن عليهم الابتعاد عن تلك النزعة نحو القرارات الأحادية الجانب‏,‏ والكف عن الاغتيالات التي تستهدف أشخاصا بعينهم وعن الاستمرار في سياسة الاستيطان‏.‏ إن سلاما عادلا ودائما في المنطقة لن يفرض من قبل هذا الطرف أو الطرف الآخر‏.‏ ففي نهاية المطاف ـ وكلنا يعلم ذلك‏,‏ كما أن الإسرائيليين والفلسطينيين يدركونه أيضا ـ ليس هناك بديل عن استئناف فعلي للمفاوضات‏.‏ وبالتالي‏,‏ فإني أوجه نداء للطرفين للقيام بما يلزم من الخطوات كي تستأنف المفاوضات‏,‏ ليس هناك من بديل‏.‏

الأهرام‏:‏ شهدت العلاقات بين فرنسا وإسرائيل خلال فترة رئاستكم العديد من الاضطرابات‏..‏ فكيف تنظرون إلي مستقبل هذه العلاقات بين بلديكما‏,‏ عقب الانتخابات الاسرائيلية وتشكيل حكومة ائتلاف يرأسها حزب الوسط كاديما وزعيمه إيهود أولمرت؟ وهل تعتقدون أن هذه العلاقات قد تؤثر بشكل سلبي‏,‏ أو ربما إيجابي‏,‏ علي الروابط القوية والمتينة القائمة بين فرنسا والعالم العربي؟

الرئيس الفرنسى فى مكتبه خلال حديثه مع رئيس التحرير
شيراك‏:‏ فرنسا حريصة علي شرعية إسرائيل وهي تقيم مع هذه الدولة‏,‏ منذ تأسيسها‏,‏ علاقات صداقة‏,‏ جري تعزيزها عبر عملية إعادة تنشيط للعلاقات الثنائية‏,‏ الجارية منذ عدة سنوات‏.‏ وفيما يتعلق بعملية السلام‏,‏ فإن علاقاتنا ارتكزت دائما علي موقف متزن‏,‏ يتجلي من خلال تحرك حازم لصالح تسوية عادلة ودائمة للصراع‏.‏ إن الانتخابات التشريعية قد سمحت للشعب الإسرائيلي بأن يظهر بشكل جلي وواضح أنه يتطلع إلي تسوية لهذا الصراع‏,‏ وهذا أمر يفترض استئناف المسيرة المبنية علي التفاوض‏,‏ وبهذا الخصوص‏,‏ أنوه بأن رئيس الوزراء السيد أولمرت أكد‏,‏ فور انتصار حزبه‏,‏ أن خياره الاول يكمن في استئناف المفاوضات‏,‏ فكونوا علي يقين أن فرنسا والاتحاد الأوروبي سيضعان كامل ثقلهما في الميزان‏,‏ وسيستنفذان كل مالديهما من تأثير‏,‏ في خدمة هذا المشروع‏.‏

الأهرام‏:‏ بعد فوز أولمرت‏,‏ وقبله فوز حركة حماس‏..‏ هل تعتقدون أن مسيرة السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين قد وصلت إلي نقطة اللا عودة؟ وماهو الدور الذي يمكن أن تلعبه فرنسا للتقريب بين الجهتين اللتين لاتعترفان ببعضهما بعضا؟
شيراك‏:‏ إن نقطة اللاعودة الوحيدة‏,‏ التي يمكنني تصورها‏,‏ هي تلك التي سيتم بلوغها عن طريق السلام بحد ذاته‏.‏ لاشك أن الأحداث‏,‏ خلال الأشهر الأخيرة‏,‏ أوجدت حالة من الريبة والقلق والشكوك حول قدرة الحكومة الفلسطينية الجديدة علي التجاوب‏,‏ بصورة فاعلة‏,‏ مع تطلعات شعبها‏,‏ وهو الأمر الذي يمر بالضرورة عبر احترام المبادئ التي أكدتها المجموعة الدولية‏,‏ وشكوك أيضا حول الاتجاه الذي ستتبعه الحكومة الإسرائيلية الجديدة‏,‏ في الوقت الذي لاتزال فيه النزعة نحو المبادرات الأحادية الجانب قائمة بشدة في إسرائيل‏.‏ ومن هذه المحطة الزمنية أود أن استخلص أمرين‏:‏ إن مبدأ الديمقراطية قد تم التعبير عنه مرتين‏,‏ من طرف الأول كما من الطرف الآخر‏,‏ ومن المعلوم أن هذا المبدأ كان دائما أفضل حليف للسلام‏.‏ إن ماعبر عنه الشعب الإسرائيلي في‏28‏ مارس هو الرغبة بالسلام‏,‏ وهذا أمر لابد أن يمر عبر حل متفاوض عليه‏.‏ وهذه الرغبة بالسلام عينها تختلج في صدور الشعب الفلسطيني وهي في صلب تطلعاته‏.‏ وكلي أمل بأن يصغي المسئولون المعنيون لهذا الأمر‏,‏ وأن يتبنوا مواقف تتلاءم مع أماني المجموعة الدولية وعندها سيصبح كل شيء ممكنا‏,‏ من جديد‏.‏

الأهرام‏:‏ قدم سرج برامتز‏,‏ رئيس لجنة التحقيق الدولية حول اغتيال رفيق الحريري‏,‏ تقريره الأولي‏..‏ فهل أنتم راضون عن تعاون سوريا مع لجنة التحقيق؟ وما الذي تنتظرونه من سوريا في المرحلة المقبلة من التحقيق؟ وهل تنوون وضع حد لعزلتها الدولية في حال تعاون كامل من جانبها؟‏.‏
شيراك‏:‏ إن فرنسا التي تربطها بلبنان علاقات تاريخية التزمت مع المجموعة الدولية كي يتسني للشعب أن يستعيد استقلاله وسيادته بالكامل‏,‏ علي مجمل أراضيه‏.‏ وهذه المسيرة تخطت مرحلة مهمة بعد مغادرة القوات السورية للبنان في شهر أبريل‏2005,‏ ومن ثم إجراء انتخابات حرة وشفافة في شهر يوليو فهذه مكتسبات أساسية‏.‏ ولكن‏,‏ من أجل أن تبلغ هذه المسيرة الهدف المرجو منها‏,‏ يتعين أن تتوقف التدخلات الخارجية وأن يتم تطبيق قرارات الأمم المتحدة بالكامل‏,‏ ويتعين الكشف عن ملابسات الاعتداءات التي دفع بسببها المدافعون عن الحرية وعن استقلال لبنان ثمنا باهظا‏,‏ ولهذا السبب‏,‏ فإن فرنسا‏,‏ مثلها في ذلك مثل مصر‏,‏ تساند كليا‏,‏ لجنة التحقيق الدولية بقيادة سرج برامتز‏,‏ كما أن إنشاء محكمة دولية‏,‏ في أقصر الآجال‏,‏ سيكون من شأنه توفير عدالة فاعلة ومطمئنة‏.‏ وفيما يخص سوريا‏,‏ بات من السهل عليها تحسين علاقاتها مع المجموعة الدولية من خلال تطبيقها قرارات مجلس الأمن‏,‏ إن هذه القرارات التي غالبا ما صوت عليها بالإجماع‏,‏ هي قرارات واضحة‏,‏ وتطالبها بعدم التدخل في المسائل اللبنانية الداخلية‏,‏ وبالكف عن تقديم المساندة للقوي التي تسعي إلي زعزعة الاستقرار في لبنان‏.‏

إنها فرصة لسوريا لكي تقيم مع لبنان علاقات مبنية علي المساواة‏,‏ وتقوم علي الاحترام المتبادل للسيادة‏.‏ إن الروابط بين الشعبين السوري واللبناني‏,‏ هي روابط تاريخية‏,‏ وسياسية وثقافية‏,‏ واقتصادية ولها أبعادها الاستراتيجية‏,‏ ولذا فإن الثقة والتقدير المتبادلين كفيلان بجعلها مثمرة وذلك لصالح الدولتين‏.‏

ومثلي في ذلك مثل المجموعة الدولية بأسرها‏,‏ فإنني أقدر الدور النشيط الذي يضطلع به الرئيس مبارك‏,‏ ومشاوراتنا متواصلة بهذا الشأن‏,‏ كما أنني أدرك أن السياسة التي نتبعها في هذه القضية يساء فهمها أحيانا‏,‏ علي الرغم من أننا لم نغير من قناعاتنا ومن التزاماتنا لصالح سيادة لبنان‏..‏ فضلا عن أنه ليس لدينا جدول أعمال خفي أو مستتر بشأن سوريا‏,‏ التي نعتبرها بلدا كبيرا في المنطقة‏,‏ ومؤهلا للعودة مجددا إلي الكنف الدولي علي نحو طبيعي‏,‏ ولاستعادة‏,‏ بالأخص‏,‏ علاقاته التقليدية مع فرنسا‏.‏

ولكن‏,‏ تحقيقا لهذا الغرض‏,‏ يتعين علي سوريا أن تغير تصرفها‏,‏ وخصوصا بالنسبة لعلاقاتها مع لبنان‏,‏ وأن تتعاون بدون تحفظ مع لجنة التحقيق الدولية‏.‏

الأهرام‏:‏ تحدث العديد من المراقبين عن تقارب في وجهات النظر السياسية ما بين فرنسا والاتحاد الأوروبي من جهة‏,‏ والولايات المتحدة من جهة مقابلة‏,‏ لاسيما فيما يخص إيران ولبنان‏,‏ فهل هذا التقارب يشمل أيضا مشكلات الشرق الأوسط الأخري‏,‏ وبالأخص العراق وسياسة الإصلاحات؟ وهل هو يمثل خطوة من جانبكم أنتم أم أنه تقارب متبادل؟‏.‏
شيراك‏:‏ نحن حلفاء للولايات المتحدة وأصدقاء لها‏,‏ وذلك منذ استقلال هذا البلد‏,‏ الذي كان لفرنسا دور حاسم فيه‏.‏ ونحن نريد‏,‏ مثلهم تماما‏,‏ ان نعمل من اجل السلام والأمن الدوليين‏.‏ اننا نسعي‏,‏ عندما يكون الأمر ممكنا‏,‏ لأن نشاطرهم التحليلات‏,‏ وأن نتبادل معهم خبراتنا وتصوراتنا لما يدور في العالم‏,‏ وإطلاق مبادرات تجتمع حولها المجموعة الدولية‏.‏ وعندما يكون هناك اختلاف في الرأي‏,‏ نعبر عنه‏,‏ كما يقتضي أن نفعل بين دول حليفة‏.‏

الأهرام‏:‏ العنف مستمر في العراق ويهدد بحرب مدنية دامية‏,‏ والولايات المتحدة مستمرة في افتعال العنف‏.‏ كيف تتصورون انقاذ العراق من تقسيم محتمل‏,‏ وهل تظنون أنه من الممكن للاتحاد الأوروبي أن يضطلع بدور تحقيقا لهذا الغرض؟ وكيف تقيم فرنسا الهجوم الأمريكي الأخير ضد السنة؟
شيراك‏:‏ إن الشعب العراقي شعب عريق‏,‏ وهو وريث حضارة عريقة‏,‏ ولكنه تقليديا‏,‏ منقسم بعض الشئ‏.‏ وكل المشكلة تكمن في وجوب اعطاء الأفضلية لما يجمع ويقرب‏,‏ ومحاولة تجنب مايفرق فيما بينه‏.‏ في هذه المسألة‏,‏ كما في مسائل أخري‏,‏ لن يستطيع المنطق الأمني وحده أن يفضي إلي عودة السلام‏.‏ وبحسب اعتقادي‏,‏ إن عراقا موحدا‏,‏ وسيدا وديمقراطيا‏,‏ ومستقرا‏,‏ يعيش في ظل تفاهم جيد مع جيرانه‏,‏ هو أمر بات لابد منه‏,‏ اليوم أكثر من أي وقت مضي‏,‏ من أجل السلام‏.‏ إن أي طرح طائفي سيكون له تداعيات مأساوية في العراق‏,‏ كما في خارج العراق‏.‏ ولكن ليس هناك حتمية تقودنا بالضرورة إلي مثل هذا الوضع‏,‏ فباستطاعة العراقيين‏,‏ بل يتعين عليهم‏,‏ أن يتوحدوا مستندين إلي ميثاق وطني يضمن سلامة أراضي العراق‏,‏ ويتسني من خلاله لكل جهة أن تجد موقعا لها في المؤسسات الجديدة‏.‏ ومن أجل التوصل إلي توافق بين فئات البلاد كافة‏,‏ لابد من التزام ايجابي من جانب دول الجوار‏,‏ لأن تفكك العراق لا مصلحة لأحد فيه‏,‏ كما أن عليهم أن يضطلعوا بشكل موحد بدور بناء من أجل مساعدة العراق علي الحفاظ علي وحدته الوطنية‏,‏ وتأسيس دولة القانون‏.‏ وعندها‏,‏ سيكون كل شئ مم
كنا من جديد‏.‏ ولهذا السبب‏,‏ لابد من تشجيع مبادرة المصالحة التي أطلقتها الجامعة العربية‏,‏ والتي حظيت بمساندة فرنسا الكاملة‏,‏ فمنذ بضعة أشهر‏,‏ كانت الأطراف العراقية المجتمعة في القاهرة قد اتفقت علي بيان ختامي يدين الإرهاب‏,‏ ويدعو أيضا إلي عودة العراق إلي السيادة الكاملة‏.‏ وهذا أمر كانت فرنسا أول من شجع عليه‏,,‏ منذ انتهاء العمليات العسكرية‏,‏ حتي يقرر العراقيون مصيرهم من جديد‏.‏

وعلي الرغم من أن القوات متعددة الجنسيات منتشرة في العراق بناء علي القرار‏1546‏ الصادر عن الأمم المتحدة‏,‏ فإن هذا الوجود الأجنبي يعاديه قسم من الرأي العام العراقي‏,‏ وهذه مسألة جوهرية من أجل إنجاح الحوار الوطني‏,‏ الذي أتمناه في الصميم‏.‏ فلو ارتسم في الأفق موعدا لمغادرتها‏,‏ قد يصبح بامكان العراقيين الدخول بيسر في منطق اكثر مسئولية‏.‏

الأهرام‏:‏ كان لفخامتكم وفخامة الرئيس مبارك موقف مشترك من خلال الاعلان عن رغبتكم في أن تتخذ الوكالة الدولية للطاقة الذرية قرارا لصالح اخلاء منطقة الشرق الأوسط من اسلحة الدمار الشامل‏.‏ هل بالامكان تحقيق ذلك بينما تصر إيران علي الاستمرار في برنامجها النووي؟ وهل تساند فرنسا الموقف الأمريكي القاضي باحتمال توجيه ضربة عسكرية وقائية ضد إيران؟ وما تصوركم لتحقيق هدف كهذا‏,‏ بينما تستمر اسرائيل في التعتيم علي سياستها النووية؟
شيراك‏:‏ موقف ايران الحالي يمثل مصدر قلق للمنطقة وللمجموعة الدولية بأسرها‏.‏ بالطبع‏,‏ نحن لانضع موضع مساءلة حق هذا البلد المشروع في اقتناء الطاقة النووية‏,‏ لاغراض مدنية‏,‏ بمجرد أن يحترم التزاماته علي صعيد عدم انتشار الاسلحة‏,‏ وأن يعطي الضمانات الموضوعية للطابع السلمي لبرنامجه‏.‏ بيد أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد استنتجت أن هذه النشاطات النووية تمت بشئ من التخفي والتستر‏.‏ ومن جهة أخري‏,‏ فإن ايران مستمرة في برنامج مقلق للتسلح بالصواريخ‏.‏ وعندما تم اعلامنا بأن ايران تنتهك التزاماتها‏,‏ سعينا بالتعاون مع شركائنا الأوروبيين إلي حل هذه الاشكالية عبر التفاوض‏.‏ فجري التوصل إلي اتفاق في باريس‏,‏ في شهر نوفمبر‏2004‏ حول تعليق نشاطات التحويل والتخصيب‏.‏ وعندما اقترح الأوروبيون علي ايران برنامج تعاون واسع النطاق‏,‏ ويتضمن بالأخص مساعدة في المجال النووي لاغراض مدنية‏.‏ فإن قرارات القيادات الايرانية‏,‏ في شهر اغسطس‏2005‏ وشهر يناير‏2006,‏ باستئناف برنامجها‏,‏ علي نحو احادي الجانب‏,‏ خلافا لقرارات الوكالة الدولية للطاقة الذرية‏,‏ التي اتخذتها بالاجماع‏,‏ تسببت في توقف هذه المسيرة‏.‏ ومن هنا جاءت ردة فعل المجموعة الدولية‏.‏ وقد رفع مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأمر إلي مجلس الامن‏,‏ فحظي بمساندة مستفيضة‏.‏ وقام مجلس الأمن بدوره بمطالبة ايران بتعليق نشاطاتها الحساسة الخاصة بانتاج مواد الانشطار‏.‏ وفي الحالتين‏,‏ كانت المجموعة الدولية تتحرك‏,‏ بالتوافق والتراضي‏,‏ وقد تم اتخاذ قرار مجلس الامن بالاجماع‏.‏ ومن جهة أخري‏,‏ لقد تمكنت فرنسا ومصر من جعل الوكالة الدولية للطاقة الذرية تشير إلي أن حل المشكلة الايرانية قد يسهم في بلوغ الهدف المرجو والمتمثل بشرق أوسط خال من اسلحة دمار شامل ومن الصواريخ‏.‏

إنني أعلن بقوة أن الباب لايزال مفتوحا أمام استئناف المباحثات‏,‏ بمجرد أن تلتزم ايران بمطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومطالب مجلس الامن‏.‏ فالقرار اليوم بين أيدي القيادات الإيرانية‏,‏ أكثر من أي وقت مضي‏,‏ عليها أن تعي أن أفق دولة إيرانية مجهزة عسكريا بالسلاح النووي هو أمر غير مقبول بالنسبة للمجموعة الدولية‏.‏ وبالطبع أعلق أهمية كبري علي وجهة نظر الرئيس مبارك حول هذه المسألة الرئيسية بالنسبة للسلام في المنطقة وفي العالم‏.‏ كما أنني أشاطره اقتناعه بالكامل بأن اخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار ومن الصواريخ الناقلة لها سيمثل خطوة متقدمة من أجل سلام واستقرار المنطقة‏.‏

الأهرام‏:‏ لم يحقق مؤتمر برشلونة الدولي حول التعاون الأوروبي ـ المتوسطي الغرض المرجو منه‏.‏ فهل تعتزمون إعادة إحياء مسيرة برشلونة ومبادئها سعيا إلي تشجيع التعاون الثقافي‏,‏ والسياسي‏,‏ والاقتصادي‏,‏ والاجتماعي‏,‏ بين بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط؟
شيراك‏:‏ سأسمح لنفسي بأن أخالفكم الرأي فيما تطلقونه من أحكام علي عملية برشلونة‏.‏ فخلال عقد من الزمن‏,‏ اكتسبت الشراكة الأوروبية ـ المتوسطية ـ وهي المحفل الوحيد الذي يضم سائر دول الجوار ـ شرعية حقيقية‏,‏ لا‏;‏ بل إنها تستطيع أن تتباهي بحصيلة ماتوصلت إليه‏.‏ إن هذا الحيز المشترك‏,‏ قد تأسس‏,‏ معززا بعناصر بشرية واقتصادية وثقافية متدفقة‏.‏ ويقام فيه حوار يتناول مجالي الأمن والدفاع‏.‏ ولقد تم في إطاره‏,‏ عقد اتفاقات مشاركة تسني من خلالها تبلور بداية اندماج إقليمي‏.‏ وهناك إمكانات مالية كبيرة تم تفعيلها‏.‏ وهذه الشرعية تستند أيضا إلي مبادرة محددة‏.‏ وهذه الشراكة تأسست علي مبدأ المساواة وعلي الحوار المتواصل‏.‏ واليوم‏,‏ يمكن القول إن هناك أمورا جديدة ملحة باتت تفرض نفسها‏,‏ وتتوق ضفتا المتوسط إلي مزيد من الأمن‏,‏ وبالأخص‏,‏ في مواجهة الإرهاب‏,‏ وإلي مزيد من النمو الاقتصادي‏,‏ ومزيد من التبادل الثقافي والإنساني‏.‏ كما باتت استجابات مشكلة الرقابة علي تدفق الهجرة مطروحة‏.‏ وقد اتخذنا قرارا‏,‏ معا‏,‏ بتطوير استجابات جديدة لمواجهة هذه التحديات المستحدثة‏.‏ ويجدر بنا إدخال مفهوم المبادلة بالمثل علي العلاقات بين الضفتين‏
.‏ ويتوجب علينا أن نظهر مزيدا من الفعالية في إدخال المفهوم الأوروبي للتعاون المدعم علي نظام الشراكة القائم فيما بيننا‏,‏ وذلك لتمكين الدول الأكثر اهتماما بالأمر من المضي قدما‏.‏ ولقد اقترحت تأسيس آليات جديدة‏,‏ مثل إنشاء أمانة سياسية متكافئة‏,‏ أو أداة مدعمة للحوار السياسي‏,‏ وحشد طاقات وإمكانات إضافية‏,‏ وبالأخص من خلال إنشاء مصرف للتنمية‏,‏ في آخر المطاف‏,‏ يكون مكرسا للبحر الأبيض المتوسط‏.‏ وأخيرا‏,‏ لقد أعربت عن رغبتي في المضي إلي أبعد في الحوار الثقافي‏,‏ عبر إطلاق مشروع ورشة ثقافية متوسطية‏,‏ ستضم مبدعين ومفكرين وصناع القرار من بلداننا‏.‏

وحول جميع هذه المسائل‏,‏ تلعب مصر دورا محوريا من أجل الحفاظ علي تميز مسيرة برشلونة وتدعيم فعاليتها‏.‏ وانعقاد منتدي متوسطي في مصر‏,‏ تشارك فيه فرنسا‏,‏ بعد أيام قليلة من زيارتي‏,‏ سيمثل برهانا إضافيا ساطعا‏.‏

الأهرام‏:‏ لدينا شعور بأن الدول العربية مهددة من جراء العولمة‏.‏ فهل تشاطروننا الشعور ذاته؟ وهل هناك حدود قصوي‏,‏ لا يجوز تخطيها‏,‏ للعولمة في الدول الديمقراطية‏,‏ في إطار اقتصاد السوق؟
شيراك‏:‏ مع العولمة يمكن معرفة كل شيء‏,‏ علي الفور وفي كل مكان‏,‏ فلم نعد معزولين‏,‏ كل واحد في بلده‏:‏ إننا نتقاسم الفضاء ذاته ومصائرنا باتت مرتبطة ببعضها بعضا أشد ارتباطا‏.‏ إن هذا الواقع الجديد‏,‏ والبعيد كل البعد عن الخبرة الزمنية التي عرفتها شعوبنا وبلداننا علي مدي القرون‏,‏ ينبغي أن يقودنا إلي حرص مضاعف وإلي مزيد من الجهود في سبيل الحفاظ علي السلام‏,‏ ويتعين علينا‏,‏ أكثر من أي وقت مضي‏,‏ أن نؤكد القيم العالمية الشاملة التي نبني عليها وجودنا والعيش المشترك‏.‏ ولكن علينا أن نعترف بأنه يقتضي إدراج هذه القيم في سياق الأوطان‏,‏ كل بحسب التوقيت الذي يناسبه‏.‏ ويتوجب علينا احترام تعددية الشعوب وتنوع الحضارات والثقافات‏,‏ والتمسك بقيم التسامح‏,‏ وانتهاز كل الفرص من أجل التحاور وتجنب إساءة الفهم‏.‏ إن التحفظ والحماية الاقتصادية‏,‏ لا جدوي منهما‏,‏ بل إنهما قد يفضيان إلي الانغلاق والتقهقر‏.‏ وبعد أن سادت علي مر السنين أوهام بأن عولمة الاقتصاد قد تكفي لحل سائر مشكلات التنمية‏,‏ باتت المجموعة الدولية تقر اليوم بأن التضامن ملزم‏.‏ فبرغم الزيادة المستمرة للثروات عامة‏,‏ فلا يزال ثلث البشرية يعيش علي ما يقل عن يورو واحد في اليوم‏.‏ فالعولمة‏,‏ هي أبعد من أن تكون قد خفضت الفوارق وعدم المساواة‏,‏ بل إنها وسعت الفجوة أكثر فأكثر‏,‏ كما أن النمو السكاني الذي بات ينحصر في المناطق الأكثر حرمانا‏,‏ يزيد من خطورة هذه الظاهرة‏.‏ إن القارة الإفريقية تحمل أكثر من غيرها‏,‏ وزر الخلل في هذه التوازنات‏;‏ وهو خلل مناف لأبسط المبادئ الأخلاقية ويمثل خطرا مهددا للسلام والاستقرار العالميين‏,‏ وتجاهله وعدم التفاعل معه تصرف غير مسئول‏.‏

الأهرام‏:‏ اتخذ أمين عام الأمم المتحدة قرارات من أجل إصلاح المنظمة الدولية‏,‏ علي غرار تأسيس مجلس لحقوق الإنسان‏,‏ برغم اعتراض الولايات المتحدة‏.‏ كيف تنظرون إلي هذه الإصلاحات؟ وهل تعتقدون أن هناك إمكانا لإنقاذ الأمم المتحدة لكي تضطلع مجددا بدورها الرئيسي في العالم؟
شيراك‏:‏ إن مشاركة فرنسا النشيطة في إصلاح الأمم المتحدة‏,‏ في كامل أبعادها‏,‏ قد تفقد معناها لو لم تكن لدينا قناعة راسخة بأولوية الدور الذي تلعبه هذه المؤسسة من أجل السلام والتوازن في العالم‏.‏

إن النقطة الأساسية في عملية الإصلاح هذه‏,‏ تكمن في تعزيز السلطة‏,‏ وبالتالي الصفة التمثيلية لمجلس الأمن‏.‏ وهذا الأمر يمر عبر زيادة عدد أعضائه‏,‏ بحيث يتسني‏,‏ بالأخص لإفريقيا أن تتخذ موقعا كاملا لها‏.‏ كما أن مجلس حقوق الإنسان هو أيضا عنصر أساسي من عناصر عملية الإصلاح هذه‏.‏ إننا نتقاسم مع مصر قناعة مفادها أن الأمم المتحدة تمتلك وحدها التفويض والشرعية والشمولية اللازمة للتعامل بفعالية مع الأوضاع التي تتسم بالخطورة‏,‏ في هذا المجال‏.‏ وسيتسني لهذا المجلس ـ الذي يتمتع باستمرارية تفوق تلك التي كانت تحظي بها اللجنة العليا ـ متابعة الوضع بشكل متواصل عبر العالم‏,‏ كما أن رفع الصفة القانونية المسندة إليه والارتقاء بها إلي مستوي أعلي‏,‏ سيوفر للمجلس سلطة وشرعية متجددتين‏,‏ تعودان بالفائدة علي الأمم المتحدة بمجملها‏.‏

الأهرام‏:‏ بات الحوار بين الثقافات والأديان في العالم‏,‏ يفرض نفسه علي الساحة الداخلية الفرنسية بسبب وجود جالية مسلمة كبيرة‏,‏ فالدين الإسلامي يعتبر الديانة الثانية في فرنسا‏.‏ كيف تنظرون إلي العلاقات مع مسلمي فرنسا في ظل ما يجري من مجابهات دولية تستهدف الإسلام اليوم؟ وكيف تنوي الحكومة الفرنسية تغيير أوضاع الجاليات المهمشة في فرنسا‏.‏
شيراك‏:‏ الطريقة التي تطرحون بها سؤالكم هذا معبأة بالمعاني‏,‏ علي ما يبدو لي‏,‏ فغالبا ما يكون هناك خطر الوقوع في الالتباس والخلط بين الأمور عندما يتم تناول موضوع العلاقات بين المسيحيين والمسلمين أو بين الشرق والغرب أو دول الشمال ودول الجنوب‏.‏ لا أظن أن هناك مجابهة بين العالم العربي ـ الإسلامي وباقي أقطار العالم التي تعيش علي التقاليد المسيحية أو اليهودية ـ المسيحية‏.‏ كما إنني لا أؤمن بحتمية حرب الحضارات والثقافات‏.‏ إن من يتنبأون بهذا الأمر‏,‏ الذي هو نذير شؤم‏,‏ إنما يسعون في ظل عالم باتت فيه مصائرنا متعاضدة‏,‏ إلي إضفاء طابع شمولي علي مشكلات لاترابط فيما بينها‏.‏ في الحقيقة‏,‏ إن المسألة هي بالأحري مسألة تصادم اشكال الجهل وليس تصادم الحضارات‏,‏ لكن بما أن الوقوع بفخ الالتباس ممكن‏,‏ يتعين علينا أن نروج لروح التسامح ولذهنية الحوار‏,‏ ولاحترام الآخر‏,‏ وللتربية والثقافة‏,‏ فضلا عن تأكيد القيم البشرية إنه أمر ضروري لاسيما وأن الشعوب لم تحضر للتعايش بين الثقافات‏,‏ هذا التعايش الذي تفضي إليه العولمة‏,‏ كما أن ذلك يفرض اتخاذ بعض الحيطة‏.‏ وفي هذا الصدد‏,‏ أتفهم أن يكون نشر بعض الرسومات الكاريكاتورية في أوروبا
قد أثار لدي العديد من المسلمين مشاعر الاستياء الشديد‏,‏ واستحال فهمه‏.‏ وقد أعربت خلال تلك الأزمة عن موقف فرنسا‏,‏ مؤكدا إدانتي جميع أنواع الاستفزاز الفاضح التي من شأنها أن تلهب المشاعر وتثير الانفعالات وتجرح المعتقدات والايمان‏.‏ لقد شددت علي أن حرية التعبير التي تمثل ركيزة من ركائز جمهوريتنا‏,‏ تقتضي أن تمارس في روح من المسئولية وأن تستند ايضا إلي قيم التسامح والاحترام‏.‏ وفي المقابل‏,‏ لقد شجبت أعمال العنف التي مورست ضد رعايا أوروبيين أو بعثات دبلوماسية‏,‏ فهذه أفعال غير مقبولة وهي تخدم مصلحة المتطرفين‏.‏

وبالنسبة للشق الثاني من سؤالكم‏,‏ فإن فرنسا فيما يخصها تكن الاحترام للاديان كلها‏,‏ ولسائر المعتقدات‏.‏ لقد بات الإسلام بالفعل الديانة الثانية في بلادنا ولها مكانتها كاملة‏,‏ والكثير من مسلمي فرنسا يحملون الجنسية الفرنسية‏,‏ بيد أن التقاليد القائمة علي تعدد الأديان التي تتبعها فرنسا استدعت ارساء تنظيم خاص لضمان تعايش منسجم بين الديانات والمعتقدات كلها‏,‏ وعليه وقع خيارنا علي العلمانية التي تعني فيما تعنيه حياد الدولة ومؤسساتها‏,‏ وذلك ليس بغرض انكار الواقع أو حقوق الأديان‏,‏ بل علي العكس من أجل أن يتسني لهم العيش معا‏,‏ وفي هذا الإطار تعد فرنسا مثالا يحتذي به إذ أن المسلمين ينعمون بحرية تامة‏,‏ حرية الفكر والمعتقد وممارسة الشعائر مثلهم في ذلك مثل اتباع باقي الديانات‏,‏ لاسيما من أهل الكتاب‏.‏

وأخيرا‏,‏ تبقي هنا مشكلة مطروحة تكمن في صعوبة الاندماج التي يصادفها بعض الاشخاص الذين غالبا ما يكونون من ابناء المهجر‏,‏ ومن المقيمين في الاحياء الصعبة‏,‏ أنها مسألة معقدة تتطلب ردا شاملا ألا وهو‏:‏ مكافحة جميع أنواع التمييز‏,‏ وهو شأن حققنا فيه خطوات متقدمة بفضل تحرك حازم ويحضرني هنا بالأخص تأسيس هيئة عليا من أجل مكافحة التمييز‏,‏ وقد تم للتو توسيع نطاق صلاحياتها كي تكافح علي نحو أفضل الممارسات غير المقبولة التي تنم عن تفرقة وتمييز ويتعين علينا أيضا الترويج لتكافؤ الفرص في مجال العمل وتأمين المسكن والتعليم‏..‏ ثم‏,‏ وفي الطرف الآخر من السلسلة‏,‏ هناك أفواج الهجرة المتدفقة‏,‏ التي يستدعي التعامل معها تقديم أجوبة بالتشاور ما بين دول جنوب وشمال المتوسط‏.‏

وهذه بالطبع مواضيع سوف استمع بانتباه لآراء وتعليقات الرئيس مبارك بشأنها‏.‏

الأهرام‏:‏ كانت لكم وجهات نظر قريبة من وجهات نظر الرئيس مبارك بشأن محاربة الإرهاب‏,‏ لاسيما أنكم تنظرون إليه كظاهرة دولية‏,‏ غير محصورة في المسلمين‏.‏ واليوم وفي مواجهة تصاعد العداوة ضد العالم الإسلامي كيف تتصورون التعاون مع مصر لمحاربة هذه الآفة الدولية؟
شيراك‏:‏ إن الإرهاب هو الهمجية ولقد أدانته فرنسا باستمرار بأشكاله كلها‏,‏ وأيا كان مصدره‏,‏ لأن ما من شيء يبرره‏.‏ فهو ظاهرة لها اسباب متنوعة‏,‏ ومن المؤسف أننا نجده في العديد من الأقطار‏,‏ والعالم الإسلامي هو أولي ضحاياه‏,‏ وإبان سلسلة الاعتداءات التي طالت مصر في عامي‏2004‏ ـ‏2005‏ كانت فرنسا أول من أكد تضامنها مع هذا البلد‏,‏ وأول من أعرب عن تعاطفه الشديد مع أسر ضحايا هذه الأعمال عديمة الإنسانية‏,‏ وتساند فرنسا ايضا مبادرات مصر الدبلوماسية الرامية إلي توحيد جهود الجميع في مكافحة الإرهاب‏,‏ وذلك في نطاق الأمم المتحدة وخلال قمة برشلونة‏.‏ وآمل في أن تتمكن مصر بدورها من تحقيق تقدم باتجاه تبني اتفاقية الأمم المتحدة الشاملة ضد الإرهاب‏.‏

وكما تعلمون‏,‏ فإن فرنسا دفعت ايضا ثمنا باهظا في الماضي من جراء الإرهاب‏,‏ وقد كان ردها دائما يتسم بأقصي درجات الحزم‏,‏ وهي تدرك أن هناك جماعات إرهابية تستغل التقلبات والغموض الناتج عن العولمة‏,‏ لكن هذا يشكل‏,‏ علي العكس سببا اضافيا للحث علي الحوار بين الثقافات بحيث يتم استيعاب ما لدينا من تباينات علي نحو أفضل فينظر لها بروح التسامح المتبادل وبانفتاح‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى