مقالات الأهرام اليومى

الأحزاب‏..‏ بعد‏30‏ عاما

عاشت مصر ثلاث تجارب حزبية منذ عام‏1907‏ وحتي اليوم‏.‏ منها اثنتان أصبحتا في ذمة التاريخ وعهدة المؤرخين‏.‏ أما التجربة الثالثة فمازالت ماثلة في ضمير أمة يحدوها الأمل في مسار ديمقراطي يضبط إيقاع حياتها‏,‏ ويحقق مصالحها‏,‏ وهو مسار لايمكن أن نخطو فيه دون حياة حزبية صحيحة وسليمة‏.‏

ولقد انقضي من عمر التجربة الحزبية الراهنة ثلاثون عاما منذ أن صدر قرار رئيس الجمهورية بالتحول من الحزب الواحد إلي التعددية السياسية عام‏1976,‏ ومع ذلك مازالت هذه التجربة محكومة بالكثير من الصخب الإعلامي‏,‏ والاتهامات المتناثرة في كل الاتجاهات والمناورات السياسية‏,‏ واختلاط الأوراق‏,‏ وغياب الرؤية الواضحة عن الكثير من الأحزاب‏,‏ الأمر الذي يجعل الحكم المحايد والتقييم المنصف مهمة لاتنجو من المخاطر‏.‏ وها هو العام الثلاثون من مسيرة الأحزاب يختزل الكثير من الملامح‏,‏ ويرسم في خطوط عريضة أزمة الحياة الحزبية في دورتها الثالثة‏.‏

وعبر العقود الثلاثة الماضية تجدد الأمل في الأحزاب عدة مرات‏,‏ ولكننا عايشنا خيبة الأمل فيها أيضا مرات ومرات‏.‏ علي الرغم من أنها لقيت من الرئيس حسني مبارك عشية توليه مسئولية الحكم أقوي دفعة علي طريق التطور الديموقراطي‏.‏ فلقد ولي الرئيس الحكم ورموز الأحزاب والتيارات السياسية رهن الاعتقال‏,‏ ولم تكد التجربة الحزبية تجاوز عامها الخامس‏,‏ بينما كانت المعتقلات تضم بين جدرانها رموز التيارات السياسية جميعا‏,‏ من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار‏.‏ وعلي الفور بدأ الرئيس ولايته بالإفراج عنهم واستقبالهم في مقر رئاسة الجمهورية‏.‏ وكان قراره إيذانا بعهد جديد يفتح الطريق أمام تطور نوعي في الحياة الحزبية والسياسية المصرية‏.‏ لكن الطريق التوي بالكثير من الزعامات الحزبية‏,‏ وحاد بهم عن الغاية من تعددية سياسية تشكل الأحزاب محورها الرئيسي‏.‏

وفي العام الثلاثين من عمر التجربة الحزبية الثالثة لقيت الحياة الحزبية والسياسية دفعة أقوي بمبادرة الرئيس مبارك لتعديل المادة‏76‏ من الدستور‏,‏ بكل ما يمثله هذا التعديل من تغيير هيكلي في الحياة السياسية المصرية‏,‏ وجاءت الانتخابات البرلمانية‏,‏ التي تعد الأكثر نزاهة في عمر التجربة بأسرها‏,‏ لتدفع الأمل في طريق التطور الديمقراطي خطوات وخطوات‏.‏ لكن معظم الأحزاب خرجت من عنفوان الحراك السياسي في ذلك العام بالكثير من الأزمات والمشكلات التي أصاب بعضها الحياة السياسية بأسرها وأصاب البعض الآخر تلك الأحزاب دون غيرها‏.‏ فقد أفسح وهن الأحزاب وضعفها وتدني تأثيرها في الشارع السياسي الطريق إلي ظهور قوة أخري لا وجود لها علي الخريطة المشروعة للأحزاب السياسية المصرية‏.‏ ووجدت تلك الأحزاب نفسها تعاني الكثير من العزلة السياسية‏,‏ فتفجرت أوضاعها من الداخل‏.‏ وشهد العام الأخير الكثير من الانشقاقات والمناوشات بين القيادات الحزبية بينما يعيش البعض الآخر حالة القلق والترقب في انتظار مصير مشابه‏.‏

وكانت نتائج انتخابات برلمان العام الماضي محصلة طبيعية لوهن ظهرت أعراضه قبل سنوات طويلة‏,‏ ففي انتخابات أعوام‏1990‏ و‏1995‏ و‏2000‏ لم تستطع الأحزاب التي أنشئت في السبعينيات أن تفوز بعدد من النواب يجاوز أصابع اليدين في مجلس يبلغ عدد نوابه‏444‏ عضوا‏.‏ وبعد انتخابات عام‏2000‏ مباشرة دعا الرئيس مبارك الأحزاب المصرية إلي تطوير نفسها حتي تستطيع التعامل مع المستجدات بعد أن أصابها الترهل‏.‏ ويبدو أن الحزب الذي استجاب لدعوة الرئيس علي الفور هو الحزب الوطني برغم الأغلبية الكاسحة التي ظل يحققها في كل انتخابات خاضها‏.‏ فقد أعاد النظر في نظامه الأساسي‏,‏ وفي علاقته بالحكومة والتطور الديمقراطي بصفة عامة‏.‏ وأثمرت جهود الحزب الوطني مبادرات وتشريعات وجهودا استهدفت دعم قوة العمل الحزبي‏,‏ وتفعيل الحياة الحزبية‏.‏ أما الأحزاب التي كانت أكثر حاجة لما دعاها إليه الرئيس مبارك فقد ظلت تراوح مكانها حتي جاءتها انتخابات عام‏2005.‏

والحقيقة أن الأحزاب السياسية الحالية قد أنفقت سنوات طويلة في البحث عن جذور تاريخية في التجربتين الحزبيتين الأولي والثانية‏,‏ في وقت كانت السنون قد باعدت فيه بين المجتمع السياسي الراهن وتلك الأحزاب القديمة‏.‏ وسيطر علي بعضها إما الثأر وإما الغرام التاريخي وبصفة خاصة ما يتعلق بثورة يوليو‏ كما انشغلت الأحزاب عن الشارع السياسي بتوزيع المناصب وشئون الإدارة التي أصبحت مهمتها إدارية أكثر مما ينبغي‏,‏ وسياسية أقل كثيرا مما هو مطلوب‏.‏ كما أنفقت الأحزاب كثيرا من وقتها وجهدها في التوجه نحو الحزب الوطني بالخصومة أو العداء‏,‏ ويبدو أنها وجدت في تلك الخصومة ذريعة مستمرة‏,‏ دفاعا عن ضعف وجودها في المجتمع السياسي المصري‏,‏ ومن ثم البقاء‏.‏ وجاءت الصحف الناطقة باسم بعض الأحزاب لتدعم هذا الاتجاه‏,‏ وتصرف قادة الأحزاب عن العمل السياسي الحقيقي في الشارع‏.‏

وفي حقيقة الأمر فإن الواقع السياسي في مصر قد تغير كثيرا‏,‏ في الوقت الذي مازالت فيه الأحزاب متمسكة بأساليبها التي لم تعد تلائم واقعا تطور ومجتمعا تغير‏.‏ وحيث تجاوزت مصر مرحلتين مهمتين علي طريق الديمقراطية وهي الآن بصدد الوصول إلي مرحلة الرسوخ الديمقراطي‏ لقد تخلصت مصر من ملامح نظامها السياسي القديم بما في ذلك المرحلة الأولي من التجربة الحزبية الثالثة‏,‏ وعقدت العزم علي المضي قدما علي طريق التحول الديمقراطي‏.‏ وكان ضروريا أن يطرأ الكثير من التغير علي فاعلية الأحزاب المصرية ووجودها في الشارع السياسي‏ وأعود فأقول إن دعوة الرئيس للأحزاب التي أطلقها منذ ست سنوات مازالت قائمة ولابديل عن الاستجابة لها في ظل متغيرات العصر ومستجدات الواقع الآن‏.‏

وليس من المفيد أن ينحصر النقاش في القرارات والإجراءات المتعلقة بحركة الأحزاب فقط علي الرغم من أهميتها‏.‏ وإنما من المهم أيضا أن نبحث في طبيعة الأحزاب القائمة وبرامجها ومدي تعبيرها عن التيارات السياسية التي نمت وتطورت خلال السنوات الماضية‏.‏ فالساحة السياسية عبارة عن مسرح يلعب عليه نحو عشرين حزبا معارضا‏,‏ ويجد أي مراقب صعوبة في تصنيف معظمها وتحديد هويتها التي يمكن أن يلتف حولها الحزبيون‏.‏ فلقد أصبحت مهمة الكثير منها إصدار صحف تعبر عن أشخاص وليس عن أحزاب‏,‏ أو تتحول إلي مصدر للتربح‏.‏ ولا أدري كيف يمكن الحديث عن حياة حزبية وعدد الأعضاء يقل عن ألف عضو لعشرة أحزاب منها علي الأقل‏.‏ بل إن عدد أعضاء حزبين منهما لايزيد علي‏100‏ عضو‏!!.‏


وفي الوقت الذي يبدو فيه الكثير من تلك الأحزاب هوائية المزاج فإنها تطالب بأمور ليست لها جذور في أرض الواقع‏,‏ وهي في معظم الأحوال بعيدة كل البعد عن الوصول إلي القوي الاجتماعية المختلفة‏.‏ وتبدو غالبا وكأنها تسقط الشعب من حساباتها‏.‏

والواقع أننا عانينا منذ الخمسينيات من واقع اجتماعي وسياسي مأزوم مع صدور قانون حل الأحزاب السياسية في‏16‏ يناير عام‏1953,‏ حيث اتجه النظام إلي التنظيم السياسي الواحد ولم يلوح في الأفق أي خلاص منه إلا مع إعلان الرئيس الراحل أنور السادات قيام التعددية الحزبية وهو الوضع الذي سرعان ما شهد العديد من المشكلات التي أدت إلي تعثر تجربة التعددية الحزبية في مراحلها الأولي‏,‏ ومنها‏:‏ أحداث يناير عام‏1977,‏ وزيارة السادات للقدس وما نتج عنها من تصعيد المواجهة مع المعارضة‏,‏ وهو ما أدي إلي إجهاض التجربة من خلال إصدار قوانين تضيق المعارضة‏,‏ مثل قانون العيب وقانون حماية الجبهة الداخلية السلام الاجتماعي مع محاصرة النشاط السياسي لأحزاب المعارضة وتعاقب الآراء المخالفة‏,‏ وقيام المدعي العام الاشتراكي بما سمي المساءلة السياسية‏.‏

ثم جاء الرئيس حسني مبارك فأعاد فتح باب التعددية الحزبية الحقيقية وأمر بالإفراج عن المعتقلين السياسيين والتقي بهم‏,‏ وأعاد الصحف المحظورة إلي الصدور‏,‏ وهكذا أعلن إنهاء عهد الحزب الواحد والسماح بوجود أكثر من حزب يمكنه المشاركة في صنع القرار السياسي بهدف تطوير الحياة السياسية والحزبية في مصر وتحسينها في فترة اتسمت بظروف سياسية بالغة الدقة‏.‏

وقد حرص الحزب الوطني‏,‏ منذ أعمال مؤتمره الثامن الذي عقد في شهر سبتمبر عام‏2002,‏ علي تطوير حقيقي وجذري يتضمن قوانين مباشرة الحقوق السياسية والانتخابات والنقابات المهنية في الوقت الذي حرص فيه علي إيجاد حالة من التعاون والتكاتف بين القوي السياسية المختلفة لغاية واحدة ألا وهي توفير حياة حزبية أفضل تسع جميع أطياف الشعب بنية حقيقية في الوصول إلي الإصلاح الديمقراطي المنشود‏,‏ ومن خلال الحوار المخلص والمتواصل بين جميع الأحزاب و مؤسسات المجتمع المدني‏,‏ ويحسب لتلك التجربة أنها استطاعت بالفعل أن تقوي المجتمع المصري بحيث جعلته في موقف قوة وموضع تحاور الآن علي قدم المساواة مع النظام السياسي الراهن وهو مسار عظيم يستحق أن نحترمه‏,‏ وأن نؤازره جميعا‏ ولكي تكتمل الصورة يجب أن نولي التجربة الحزبية الاهتمام والاصلاح‏,‏ فلقد كان الغرض دائما من وجود أحزاب سياسية متعددة هو التعبير عن القوي الاجتماعية والتيارات الفكرية و الحركات السياسية المختلفة في أي مجتمع‏,‏ فالحزب السياسي يعبر عن مختلف طبقات الشعب وليس عن أفراد يمثلون هذا الحزب أو ذاك دون أي ارتباط أو تأثير بالشارع السياسي المصري‏.‏

إننا نواجه الآن ضرورة وحتمية الاتجاه نحو الإصلاح السياسي والتطور الديمقراطي‏,‏ ولكن يبدو أن بعض الأحزاب قد تجاهلت هذه الحتمية وتاهت داخل حلقات مفرغة من الخلافات الداخلية‏,‏ فلقد أظهرت أزمة حزب الوفد الأخيرة‏,‏ والصراعات والانشقاقات المختلفة في معظم الأحزاب المصرية أنها بعيدة كل البعد عن تفعيل حوار خصب بين أعضائها‏,‏ والأهم بينها وبين قوي المجتمع‏,‏ فأصبحت وكأنها تعمل من أجل مصالح شخصية لاعلاقة لها بالهدف الأساسي الذي أنشئت من أجله‏,‏ وأصبح الصراع علي السلطة داخل الحزب هو الغاية مع رغبة كل رئيس حزب في الاستئثار بالظهور والهيمنة وتهميش دور باقي مؤسسي الحزب ونوابه‏,‏ أما تنشيط الحياة الحزبية فلا أهمية له في فكر البعض‏,‏ بل أن الكثير من هذه الأحزاب لم تضع حتي الآن برامج جادة للنهوض بالمجتمع وحل القضايا الاجتماعية و الاقتصادية الملحة‏,‏ ولم تفكر في وجود حقيقي في الشارع المصري أو حتي تدريب كوادرها‏..‏

إننا نشهد اليوم وجود أحزاب تحمل أفكارا لا تتناسب بأي حال مع وقائع الحياة في الشارع المصري وأحزاب أخري تفرغت تماما لانتقاد الآخرين دون أن تمعن النظر فعليا في مواجهة مشكلاتها ونواقصها وتتجه إلي تطوير أدائها الحزبي بما يتلاءم مع التحديات التي علينا اجتيازها للنهوض بقضايا الوطن‏,‏ وهو ماينبغي عليها سرعة مراجعته واتخاذ السبل الكفيلة بتصحيح مسارها من أجل تنشيط الحياة السياسية والتطلع إلي مستقبل أفضل لمصرنا العزيزة‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى