أمريكا وكارثة السنوات الثلاث في العراق

قبل ثلاث سنوات من الآن وضع المحافظون الجدد بالولايات المتحدة قضية العراق في معادلة تتسم بكثير من التبسيط المخل والقراءة غير الرشيدة للأوضاع في عراق ما بعد صدام حسين. وفيما يبدو فإن الساسة في واشنطن قد أرادوا بهذا التبسيط حشد التأييد لخطتهم محليا ودوليا, ولكنهم وقعوا في أسرها فصدقوها, حتي أن الرئيس جورج بوش وقف قبل عامين بشكل مسرحي علي ظهر إحدي حاملات الطائرات الأمريكية بعد عام من الغزو معلنا أن المهمة انتهت. واليوم وبعد ثلاث سنوات من الوجود العسكري الكثيف في الأراضي العراقية, نجد أن أوهام الخطة قد تبددت, وأن أمريكا قد وجدت نفسها في مواجهة واقع مزر لايعانيه العراقيون وحدهم بل والأمريكيون أيضا. فلقد تصور المحافظون الجدد أن دخول القوات الأمريكية إلي أرض العراق سوف يطيح بصدام حسين وقياداته, ويجتث حزب البعث من جذوره وحينئذ سيتحقق كل التغيير المطلوب, وسوف تتمكن القوات الأمريكية من العودة إلي قواعدها بعد عام واحد, تاركة وراءها نموذجا يحتذي من الديمقراطية, وأرضا تنبت العسل. وذهبت بعض التحليلات الأمريكية إلي أن عراق ما بعد صدام سيكون نافورة الشباب التي تجدد الفكر السياسي في العالمين العربي والإسلامي. لكن الواقع اليوم يقول إن الاقتصاد الأمريكي تحمل قرابة350 مليار دولار, في الوقت الذي مازالت القوات الأمريكية تواجه فيه كل معوقات الانسحاب, كما أن العراق علي شفا حرب أهلية وتزداد معاناة شعبه علي أرض ينبت فيها الخراب أكثر مما ينبت النماء. والحقيقة أن السياسة الأمريكية تواجه مأزقا تأزمت أبعاده. فالخروج من العراق يضع البلاد علي قارعة الطريق نهبا لكل القوي الداخلية والإقليمية ويدخلها إلي نفق حرب أهلية لا أيضا فقد تحول حلم الديمقراطية في العراق إلي معوق يعرقل النمو الطبيعي لها في المنطقة بأسرها. فالقوي الراغبة في الإسراع بالديمقراطية بدول المنطقة ترفض الضغوط الأمريكية. بعد أن أحالت سنوات الاحتلال الثلاث في العراق هذه الديمقراطية إلي كابوس, وبلغ التدخل الأمريكي مداه في شئون كثير من الدول بما ينطوي علي مخاطر عديدة خصوصا في منطقة الشرق الأوسط. ولكن ما هو الخيار الأمريكي الآن؟ بداية يكاد المحللون الغربيون يجمعون علي أن استراتيجية الحرب في العراق مأزق من الصعب الخروج منه بأي انتصار, وإن اختلفوا في كيفية هذا الخروج, فالإجماع علي أن أمريكا في مأزق يعكسه أحدث استطلاعات الرأي العام الأمريكي, والذي أظهر استياء65% من الأمريكيين من الطريقة التي يدير بها الرئيس بوش الحرب في العراق. وقد وصلت شعبيته إلي أدني مستوي لها منذ توليه الرئاسة عام2001, حتي أن المؤرخ العسكري الأمريكي الشهير مارتن فان كريفلد الذي تدرس مؤلفاته للقوات الأمريكية يصر علي أن قرار شن الحرب علي العراق كان أسوأ مغامرة عسكرية في القرن العشرين, ويقول لقد ضلل الرئيس بوش الشعب الأمريكي لشن أكثر الحروب حماقة منذ أن أرسل الإمبراطور أوجستوس قواته إلي الحرب علي ألماني افي العام التاسع قبل الميلاد, وفقد فيها جميع قواته. | |
كما تؤكد التحليلات الصادرة عن مراكز البحوث الأمريكية أن اعتراف الأمريكيين بأخطائهم التكتيكية والاستراتيجية التي ارتكبت خلال السنوات الثلاث الماضية هو مفتاح الخروج من المأزق الراهن. لكنها تري في الوقت نفسه أن تلك المشكلات لن تؤدي إلي استسلام المحافظين الجدد الذين أصبحت لهم جذور متعمقة في السياسة الأمريكية. وعلي جانب آخر فإن تطورات الأحداث توحي بأن هناك تحولا في الموقف الأمريكي بعد سنوات المأزق الثلاث في العراق. حيث اتخذ الكونجرس الأمريكي قرارا بتشكيل لجنة مستقلة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لدراسة الوضع في العراق, وإعادة النظر في الاستراتيجية الأمريكية هناك. وحتي يتم تجنب الوقوع في شراك الحزبية أو براثن المحافظين الجدد شاركت في تشكيل اللجنة أربعة مراكز بحثية هي: المعهد الأمريكي للسلام, ومركز دراسات الرئاسة, ومركز الدراسات الدولية والاستراتيجية, ومعهد بيكر للسياسات العامة في جامعة رايس بتكساس, ويرأس اللجنة كل من جيمس بيكر وزير الخارجية الأسبق, ولي هاملتون الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب, والذي ذاعت شهرته بعد رئاسته لجنة التحقيق التي كلفت ببحث أوجه القصور في عمل أجهزة المخابرات الأمريكية قبل هجمات11 سبتمبر2001. وقد أصدرت اللجنة توصيات محددة أسفرت عن سلسلة من التغييرات في الهياكل التنظيمية لأجهزة المخابرات الأمريكية. وهذه اللجنة المستقلة والتي خصص لها الكونجرس مبلغ مليون وثلاثمائة ألف دولار تواجه مهمة وصفها جيمس بيكر بأنها لن تكون سهلة. فهي من ناحية تحاول إصلاح ما أفسدته الأخطاء الاستراتيجية للمحافظين الجدد في العراق, ويشير ذلك إلي اعتراف ضمني من جانب الإدارة الأمريكية بالأخطاء برغم تصريحات أعضائها التي تحاول الالتفاف علي هذه الأخطاء. ومن ناحية أخري فإن مغزي اللجنة وكيفية تشكيلها يشير إلي ان تغير في الموقف المتشدد للبيت الأبيض الذي اعتاد ألا يسمع إلا نفسه, فلقد تنازل عن عنجهية المكتب البيضاوي وفقا لما تشير إليه بعض التحليلات الأمريكية. وهكذا فإن الأوضاع المتردية في العراق للأمريكيين والعراقيين علي السواء تفرض نفسها علي الإدارة الأمريكية اليوم ـ أكثر من أي وقت مضي ـ وذلك إلي الحد الذي يجبر البيت الأبيض علي التخلي عن الصلف الذي واجه به كل نداء صدر من الشرق الأوسط وأوروبا ومن داخل الولايات المتحدة نفسها. ويبدو أن المحافظين الجدد قد نجحوا في صرف اللجنة عن البحث في أسباب شن الحرب ومدي صحتها لتركز في عملها علي ما يجب عمله في المستقبل للخروج من المأزق الراهن. وحتي يمكن تمرير هذا التغاضي عن قضية بالغة الأهمية, فقد صدر الكثير من التصريحات عن صرامة اللجنة وعملها من أجل المصلحة القومية الأمريكية دون أي اعتبارات أخري. كيف تخرج القوات الأمريكية من العراق ومتي؟ وتشير كثير من الدراسات الأمريكية إلي أن عام2006 لابد أن يكون عام الحسم لأن الوقت لم يعد في مصلحة الولايات المتحدة, كما أن واحدة من مهام لجنة الكونجرس هي تحديد الفترة المتبقية للقوات الأمريكية في العراق. وتتبدي هنا أربع قضايا أساسية لابد من التعامل معها في ظل البحث عن سبيل للخروج: أولا: نظام الحكم في العراق.. حيث لايمكن للقوات الأمريكية الخروج دون وجود نظام سياسي يحظي بتأييد العراقيين أنفسهم, ويستمد شرعيته من تلبية احتياجات المواطنين. وفي سبيل ذلك لابديل عن مصالحة وطنية تسمح بمشاركة فعالة لجميع قطاعات المجتمع. وتنازلات من كل الأطراف لتحقيق المصلحة العراقية العليا. و الحيلولة دون تطلع زعماء الشيعة في جنوب العراق إلي الحصول علي حكم ذاتي يفصل جنوب العراق علي غرار ما حدث مع الأكراد العراقيين في الشمال, باعتبار أن ذلك من شأنه أن يدفع بالسنة العراقيين إلي إطلاق شرارة الحرب الأهلية استنادا إلي تجريدهم من أي موارد بترولية. ولابد أن تعترف الحكومة الأمريكية بأنها لاتستطيع تحقيق ذلك بمفردها, وأن عليها أن تسمح للأمم المتحدة والمجتمع الدولي بالقيام بدور قيادي في العراق. ثانيا: الأوضاع الاقتصادية وجهود الإعمار.. حيث خلف الغزو الأمريكي دمارا شاملا لكل مقومات الاقتصاد العراقي. فالتحدي الذي يواجه العراق اقتصاديا يتمثل في ضرورة أن تصبح الحكومة العراقية قادرة علي تلبية الاحتياجات الاقتصادية العاجلة لبث الثقة في النظام السياسي. وكذلك قدرة العراق علي التعامل مع المشكلات الهيكلية في الاقتصاد بحيث يتمكن من توفير عائدات للشعب دون الاعتماد علي مساعدات خارجية ضخمة. ثالثا: الوضع الأمني.. حيث يواجه العراق احتمالين متناقضين بشأن المستقبل. فإما أن تتمكن النخبة السياسية من التفاوض والتوصل في النهاية إلي حكومة وحدة وطنية قادرة علي إدارة شئون البلاد وحفظ الأمن, وإما أن يصبح العراق معرضا لمشاعر الخوف من ضياع الأمن وفرص الحياة الكريمة, بما يدفع الكثيرين من العراقيين إلي أحضان التطرف. وفي هذا الصدد فإنه يجب علي القوات الأمريكية أن تعيد ترتيب أولويات عملها. فتوفير الحماية وفرض الأمن يأتي أولا, بينما تأتي مهمة مطاردة من تراهم متمردين في مرحلة تالية بعد تدريب وتأهيل القوات العراقية. فالأمن في العراق ليس ضرورة اجتماعية فقط وإنما هو أيضا ضرورة اقتصادية لتوفير المناخ اللازم للتنمية بجميع أشكالها. رابعا: الاستراتيجية الأمريكية بشأن دول المنطقة.. فالأخطاء التي ارتكبت في العراق طالت كثيرا من هذه الدول بشكل أو بآخر, وتسببت الأزمة الامريكية في العراق في توتر علاقات الولايات المتحدة بدول الجوار ودول المنطقة. ومن هنا يتعين عليها إعادة النظر في علاقاتها الإقليمية وصياغة استراتيجية جديدة تحقق مصالح الأطراف المختلفة, إلي جانب المصالح الأمريكية والتعاون معها في معالجة الأزمات الإقليمية. فلقد بات واضحا للإدارة الأمريكية أن الخيار العسكري يتسبب في كثير من المشكلات مثلما يحقق بعض الحلول. فأحد الأخطاء الأمريكية في الحرب علي العراق هو أن الإدارة الأمريكية دخلت العراق باحثة عن الانتصار وليس عن السلام وفي هذه الحالة فإن المنتصر يعاني ويلات أكثر من الويلات التي يعانيها المهزوم, وهذا ماحدث لأمريكا بالفعل. أن الموقف في العراق الآن معقد وصعب للغاية, وفي تقديري أن المسئولية كلها تقع علي عاتق الإدارة الأمريكية التي فجرت كل هذه الكوارث وعليها مثلما يطالبها الكثيرون من الأمريكيين العقلاء ـ أن تستجيب وتسارع, وعلي رأسها الرئيس جورج بوش, إلي المنطقة للاستماع من قادتها وشعوبها إلي كيفية إنقاذ العراق والمنطقة من كل هذه الأخطار والكوارث المتلاحقة والمستمرة التي تسببت فيها الولايات المتحدة الأمريكية. | |