الخطر القائم.. والآخر المحتمل مصــر في مهمــة عاجــــلة

برغم كل التدابير والاحتياطات فقد أفلت مرض إنفلونزا الطيور من عقاله الآسيوي, واتجه نحو اوروبا والشرق الأوسط. وتسلل إلي مصر ضمن دول آسيوية وأوروبية حطت بها أسراب الطيور المصابة في هجراتها السنوية المعتادة, لتنذر الجميع بكارثة طبيعية لم تقع بعد وإن هددت بها. وبالرغم من الخطر الذي ينطوي عليه هذا المرض, فإن الفارق بين وصوله ورحيله يكمن في ذلك الحذر الرشيد, الذي ينبغي أن يميز السلوكين الفردي والعام في التعامل معه. وهذا الحذر الذي أقصده ليس فزعا أو رعبا يملأ النفوس, وليس جزعا أو يأسا من الأمل في القضاء عليه, كما أنه ليس حالة من الشعور بخوف طارئ تناقضه افعال أو اجتهادات خاطئة او تواكل غير مبرر. فالمرض الوافد ليس معروفا لدينا أو لدي غيرنا,ولا مجال معه لإعمال الرأي والخبرة إلا من جانب مختصين لديهم ما يساعدنا علي الوقاية منه. إن خسائر مرض أنفلونزا الطيور مازالت حتي اليوم خسائر اقتصادية أصابت الثروة الداجنة في كل البلدان التي وصل إليها, وهذه ليست المشكلة الآن, إذ سوف يتجاوزها الجميع, لكن المشكلة القائمة هي أن التقاعس عن مواجهة الخطر القائم ربما يمهد الطريق أمام خطر أكبر مازال في طور الاحتمال حين يصبح الفيروس قادرا علي الانتقال بين البشر, وهذا هو الهاجس الإنساني الأكبر في العالم الآن. والحقيقة أن الحكومة المصرية قد تحركت بكفاءة وبسرعة عالييتين لمحاصرة هذا الفيروس, وقد أشاع ذلك شعورا بالطمأنينة لدي المواطنين. فعلي الرغم من تقارير منظمة الصحة العالمية بأن الإصابة بين الدواجن كانت في حدود ضيقة جدا حين أعلن عنها, فإن مصر تعاملت مع الموقف بجدية بالغة, وفي ضوء استعدادات حقيقية سبقت وصول الفيروس إلي أراضينا. ففي شهر أكتوبر الماضي وعقب ظهور حالات المرض في بعض الدول الآسيوية اجتمع الرئيس حسني مبارك مع مجموعة الوزراء المختصين وطلب إعداد خطة وقائية عاجلة, وقد وضعت الحكومة بالفعل خطة متكاملة, ومع ظهور أول حالة إصابة بين الطيور بدأ تنفيذها, وتابع الرئيس مبارك كل تطورات المشكلة, وشدد علي ضرورة الاستعداد في كل المستشفيات, وأكد الشفافية الكاملة في كل ما يتعلق بهذا المرض الوافد, ضمانا للتعاون الكامل بين المواطنين وأجهزة الدولة في المواجهة الرامية إلي درء تداعيات خطر محتمل. وكانت هذه الشفافية في نشر المعلومات دافعا للكثيرين من المواطنين للإبلاغ عن الطيور المشتبه في إصابتها بالفيروس, كما أن التليفزيون قام بدور فاعل ومؤثر في بث الطمأنينة من خلال برامجه التي أذيعت فور الإعلان عن ظهور المرضي والتي تضمنت شرحا وافيا وإجابة واضحة علي كل التساؤلاتي ونشرت القدر اللازم من المعلومات بين المواطنين بشأن التدابير الواقية من الإصابة بالمرض أو انتشاره, وعلي صعيد الجمعيات الأهلية بادرت جمعية الهلال الأحمر ـ بتوجيه من السيدة سوزان مبارك ـ بتنفيذ خطة عاجلة لمساعدة أجهزة الدولة والمواطنين فكانت بادرة انطلاق عمل القطاع المدني في مواجهة الأزمة. وهكذا تبدو مصر كلها اليوم في مهمة فرضتها الطيور المهاجرة عبر سمائها, أو هكذا يبدو الأمر حتي يعلن العلماء كلمتهم في تلك السلاسل الجديدة من الفيروسات, التي تظهر تباعا في حياة البشر. فمصر مثل غيرها من الدول التي تسلل إليها الفيروس تسعي إلي التعامل مع خطر قائم أصاب أحد الجوانب الإقتصادية, لتجنب الخطر الأكبر حين يجد هذا الفيروس وسيلة للانتقال من إنسان إلي آخر, وهو ما لم يحدث حتي الآن. | |
وأستطيع أن أقول إن نجاح الجهود المصرية في تلك المهمة يظل مرهونا بعدد من الإجراءات والواجبات لايقوم بها قطاع دون قطاع, ولا مواطن دون آخر, وأهمها مايلي: أولا: أن تستمر الحكومة فيما بدأت به من شفافية في عرض المعلومات والحقائق الكاملة حول تطورات الإصابة بهذا المرض استثمارا للثقة التي تولدت في أدائها خلال هذا الأسبوع. وأود ان انبه إلي اهمية استمرار أجهزة الدولة في توفير المزيد من البيانات والمعلومات وألا يقتصر ذلك علي المراحل الأولي من المواجهة. فندرة المعلومات أوغيابها سوف تساعد علي ظهور الشائعات والأقوال غير الدقيقة. وليت الوزارات المعنية تخصص مصادر رسمية لما تذيعه من بيانات أو معلومات, وأن يبادر هؤلاء جميعا إلي الرد علي الشكاوي أو الشائعات التي سوف تزداد في مثل هذه الأزمات, فما أسهل مواجهة الأقوال المغرضة في مهدها. ولابد من أن يدرك هؤلاء أيضا, أن التعامل مع الرأي العام في هذا الموقف يختلف تماما عن غيره من المواقف, ومواجهة الخطر القائم ليست مهمة قصيرة الأمد فالتخلص من الفيروس الوافد ربما يستغرق وقتا ليس بالقصير, ومن المهم أن تظل أجهزة الدولة في مستوي اليقظة التي بدأت به المواجهة, وأن تحافظ علي مستوي الاهتمام العام بالخطر القائم, وألا ينسينا انحسار عدد الإصابات يوما ضرورة اليقظة الكاملة حتي نتأكد من خلو مصر تماما من هذا الفيروس اللعين. ويجدر بنا أن نشير في هذا الصدد إلي أن القرارات الحكومية التي تم اتخاذها بشأن هذه المشكلة تمثل ثورة إدارية في أسلوب التعامل مع مثل هذه الكوارث, ومن أهمها التحرك الحكومي لمحاصرة المرض وتعويض المنتجين عن طريق قيام الحكومة بشراء الدواجن السليمة وذبحها وتجميدها وعرضها بالأسواق, ولعل ما يبعث علي الاطمئنان ويقلل من مخاوف الناس حول استهلاك الدواجن هو أن المرض لاينتشر من خلال تناول الدواجن, ولكن بالتعرض المباشر للدواجن المصابة والنافقة, وهو أمر يساعد علي مواجهة الكارثة بكل تداعياتها. ثانيا: الاهتمام الشديد بما يحدث عند النهايات الطرفية لأجهزة الدولة, فليس كافيا أن يهتم الوزراء وكبار المسئولين في الوزارات والأجهزة المعنية بالأزمة, بينما لايعيرها صغار الموظفين في الإدارات المختلفة أي أهتمام, فعند تلك النهايات الطرفية يكمن الداء والدواء لكثير من مشكلات الحكومة مع المواطنين. وليست التعليمات المشددة وسيلة ناجحة في كل الأحيان. إذ لابد من التوعية الجدية لموظفي الحكومة في المستويات الفرعية والدنيا بخطورة ما نواجهه واساليب المواجهة. وإذا كنا أشد حرصا الآن علي تعاون المواطن, فليس أقل من أن يجد تجاوبا واهتماما من الأطباء في المستشفيات الصغيرة وموظفي الوحدات البيطرية وإدارات الزراعة ومكاتب البيئة وغيرها من توابع الوزارات في كل مكان حيث يقرر المواطن درجة تعاونه مع أجهزة الدولة. و لندرك أن تعاون المواطن و فهمه هو الطريق الوحيد للتخلص من فيروس انفلونزا الطيور و عدم توطنه بمصر في المديين المتوسط والطويل. ثالثا: ان تقوم توعية المواطن ـ وهي حجر الزاوية في اساليب مواجهة المرض ـ علي أسس مدروسة تصل بنا إلي النتائج المرغوبة. فالتوعية غير المدروسة يمكن أن تتجاوز الحذر الواجب إلي الفزع غير الواجب. ولذلك نريد توعية بحجم ما هو مطلوب من المواطن في سلوكه اليومي المعتاد دون زيادة أو نقصان. ففي جميع برامج التوعية الصحية العالمية تتم استثارة مشاعر الخوف لدي الجمهور العام ولكن كمية الخوف المستخدمة يمكن أن تؤدي إلي نتائج عكسية. فالحملات التي ارتكزت علي استثارة مستويات معتدلة من مشاعر الخوف كانت أكثر تأثيرا من تلك التي استخدمت الخوف المفضي إلي الرعب. وأؤكد هنا من جديد أن انتشار المرض في مصر مازال في حدوده الدنيا, وإنفلونزا الطيور لم تصل بعد في أي مكان من العالم إلي حدود الخطر الذي يكون فيه الفيروس قادرا علي الانتقال بين البشر. رابعا: قدرة وسائل الإعلام وأجهزة التوعية بما فيها قنوات الوعظ الديني علي تغيير بعض المعتقدات او السلوكيات التي تنطوي علي كثير من الخطر, خاصة فيما يتعلق بتربية الطيور في المنازل, فالطيور الداجنة شريك اساسي للمصريين في ديارهم منذ آلاف السنين لدرجة أنها اكتسبت قيمة اجتماعية مضافة لقيمتها الاقتصادية. لكن علينا أن نعي أن التغيرات المناخية وموجات الأمراض الجديدة التي ظهرت بسبب عدوان الإنسان علي البيئة الطبيعية لم تعد تلائمها تلك السلوكيات أو العادات القديمة. ولم تعد مخالطة الإنسان للحيوانات الداجنة والأليفة مما يصلح في هذا العصر, كما لم تعد معايير الصحة الحالية تسمح بذبح الطيور في محال تقع أسفل العمارات ووسط المساكن وكذلك نحر الأضحيات في الطرقات والشوارع بدعوي العبادة والتقرب إلي الله. ولاشك في أن تغيير تلك السلوكيات التي تجذرت في ثقافتنا بحاجة إلي جهود مستمرة, طويلة وشاملة. ففي مصر نحو عشرين ألف جمعية أهلية ولكن لا أدري أين هي من الخطر القادم ؟ وأين رسالتها في تحقيق تنمية حقيقية لكل القطاعات في الريف والحضر حيث لاتنمية بدون وعي؟. إن الخطر القادم إذا لم تتم مواجهته والقضاء عليه بالأسلوب السليم فسوف يلحق الكثير من الأضرار الاقتصادية والاجتماعية بقطاعات عريضة من البسطاء هم اليوم بحاجة إلي دعم الحكومة والقطاعين الخاص والمدني. ومن هذا المنطلق فإن الجمعيات الأهلية مدعوة اليوم وبشدة إلي مواجهة تداعيات تلك الكارثة الطبيعية في حياة الأسر التي فاجأتها الطيور المهاجرة بما لم تستعد له. فالأزمة الراهنة تضعها علي المحك حيث انها أقدر من غيرها علي الوصول إلي هذه القطاعات حيث تعيش لتخفف من آثار مواجهة هذا الخطر. فالواقع الآن يفرض إعادة النظر في سلوكيات واساليب حياة أصبح تغييرها ضروريا وحتميا من أجل سلامة المجتمع وصحته وذلك هو التحدي الكبير. خامسا: ان تفاعل كل فرد مع المشكلة الراهنة ضرورة حياتية. فأطراف المواجهة الآن هي أجهزة الدولة ووسائل الإعلام والمواطنون أنفسهم. والجميع في حاجة ملحة إلي تدفق سريع للمعلومات حول الخطر القائم والتوعية باساليب المواجهة.وفي تقديري أنه مما يحقق سرعة انتشار المعلومات ورفع مستويات الوعي أن يمارس كل مواطن دوره في نقل ما يصل إليه من معلومات صحيحة إلي الآخرين ويسهم في نشر ما تقوله وسائل التوعية إلي الآخرين ضمانا لانتشار المعلومات الصحيحة حول المشكلة وسبل مواجهتها. فحين يصبح الخطر عاما تتسع حدود المسئولية الفردية. والسلوكيات التي تنطوي علي أخطار لن تصبح فقط مسئولية مرتكبيها وإنما تصبح مسئولية من شاهدها وراقب اصحابها, فنحن بحاجة إلي النصح المتبادل فيما بيننا ونحتاج إلي المبادرة لمنع أو المساعدة في منع كل سلوك يلحق الضرر بجهد استنفر طاقة الأمة بأسرها. لقد وضعت الدولة إمكاناتها في معركة المواجهة, مع المرض لكن فاعلية هذه الإمكانات تزداد كثيرا مع التفاعل النشيط لكل فرد مع الجهود المبذولة والإمكانات المتاحة, ولن تستطيع كل وسائل الإعلام مهما تبلغ قدراتها أن تصل بالمعلومات والسلوكيات الصحيحة إلي كل مواطن إذا لم تلق دعما من الجميع بحمل ونشر تلك الرسائل والسلوكيات إلي الآخرين. ولا يفوتني أن أشير هنا إلي ما قام به وزير الإعلام انس الفقي من حشد طاقات الحكومة ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها المسموعة والمرئية والمكتوبة إلي حشد جميع الصحف بمختلف اتجاهاتها ما بين قومية وخاصة وحزبية, فلقد ظهرت جميعها في صورة لم تشهدها مصر منذ سنوات واتفقت جميعها علي التصدي لكارثة طبيعية يلعب الإعلام دورا محوريا في مواجهتها, مع قدر كبير من اليقظة والأسلوب العلمي في التناول, ويجب ألا يمر ذلك بدون إشادة و انتباه لحجم الجهد وفاعلية التنسيق, فلقد ظهر ذلك واضحا في مواجهة الشائعات الضخمة وغير المبررة وأبرزها ما أشيع عن تلوث مياه نهر النيل. ولاشك في أن مستويات الأداء الحكومية والشعبية في مواجهة الخطر القائم توحي بالكثير من الأمل في مواجهة الفيروس الذي حطت به الطيور المهاجرة علي أرضنا, ولاشك في أن تزايد عدد الإصابات التي تم الإبلاغ عنها دليل علي الوعي الذي تعمق داخلنا, وهكذا نشطت التحركات السريعة إلي حيث توجد بؤر الإصابة واصبح اتخاذ القرار أكثر حسما إننا نعيش اليوم في حالة انتباه ويقظة وأؤكد أننا قادرون علي تجاوز تلك المحنة وغيرها بسلام. فقد وحد الخطر الوافد الجميع في مصر, والخطر الذي لايميت يزيدنا قوة وتماسكا. | |