رحيل الفرسان

حمل الأمس القريب نبأ رحيل ثلاثة من فرسان الفكر والسياسة والصحافة, أثروا الحياة المصرية بعطائهم المتدفق علي مدي قرابة نصف قرن. وإذا كان معاصروهم قد أدركوا وجودهم وما قدموه لمصر, فإن أجيالا قادمة سوف تجدهم علامات فارقة في التأريخ للفكر والسياسة والصحافة المعاصرة.
لقد رحل محمد سيد أحمد أحد أبناء الأهرام وكتابه وصانعي تاريخه. فهو واحد من أبرز أبناء الحركة السياسية المتدفقة في مصر, وسوف نتوقف جيل بعد جيلا أمام العديد من محطات حياته, والقيم الإنسانية النادرة التي جسدها وظللنا سنوات وسنوات ننهل منها, حيث كان يزودنا علي صفحات الأهرام أسبوعيا بما يملأ العقول و القلوب. كان مفكرا سياسيا من طراز رفيع, عاصر مسيرة السلام وكان الأب الشرعي لمعظم المصطلحات السياسية والفكرية التي أعقبت اتفاقية السلام. وأعطانا الكثير وترك فينا قيما سوف تزداد تألقا عبر الأيام. وكان واحدا ممن رأوا بوضوح أن هناك حياة أخري للإنسان لا ينالها إلا بأعماله و ابداعاته و مواقفه و وقدرته علي رصد ما يدور حوله و تشخيصه و تحليله, وقد فعل هو كل ذلك, وقدم خلاصة تجاربه للأجيال المقبلة.
ولقد لعب قلم محمد سيد أحمد وفكره خلال العقود الماضية دورا رائدا في التنوير, وكانت آراؤه ثورية وتخالف أحيانا أعرافا سادت واعتقادات دامت زمنا, لكنها كانت تدفعنا نحو مواجهة التحديات التي فرضت علينا إقليميا و دوليا بفهم و إدراك للملابسات والخبايا. و هو الذي تمكن دوما من استشراف المستقبل وربط ملامحه بملامح الماضي والحاضر في تركيبة شديدة التميز.
ومنذ ثلاثين عاما وضع كتابه’ بعد أن تسكت المدافع’ الذي أرخ به لمنهج سياسي جديد في الفكر العربي المعاصر. ووضع فيه الخطوط العريضة لمستقبل الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وكان أحد المفكرين القلائل الذين أعلنوا أن المصالحة ممكنة في وقت كانت فيه الغالبية تؤمن باستحالة السلام موضوعيا مع إسرائيل. وكان أول من قال في كتابه إن هناك اتفاقا عربيا ـ إسرائيليا قادما, وتحدث عن بشائر السلام قبل الحديث عن هدير المدافع, فأحدث بكتابه ضجة في الأوساط السياسية و ترجم إلي ست لغات, و ما زال حتي اليوم موضع تحليل و دراسة من جانب مفكرين و باحثين كثيرين حول العالم.
كان نموذجا فريدا من العطاء المستمر لأكثر من نصف قرن, ولم يتراجع يوما عن الدفاع عن أفكاره, و تميز طوال حياته بنزاهة الصحفي وأخلاق المناضلين و تواضع العلماء, وحلق في آفاق لا يستطيع التحليق فيها سوي الباحثين عن الحقيقة و الحالمين بالحرية و العاشقين لتقدم البشرية.
و في تلك اللحظة المؤلمة نودع أيضا علامتين بارزتين في تاريخنا هما: السياسي الكبير فكري مكرم عبيد و الكاتب الصحفي البارز حسن فؤاد الذي تصادف أيضا أن يكون رحيلهما متزامنا في اليوم نفسه.
لقد كان فكري مكرم أحد أهم الذين قدموا شهاداتهم علي الأحداث و الوقائع التاريخية بكل صدق و موضوعية, وهو أول أمين عام للحزب الوطني, و نائب رئيس مجلس الوزراء لشئون مجلسي الشعب والشوري سابقا, و هو أيضا شقيق وليم مكرم عبيد الزعيم الوفدي الكبير. كما كان واحدا من اهم اصحاب الخبرات السياسية طوال ما يقرب من نصف قرن, ومن أبرز مؤسسي الحزب الوطني. وقد وضع العديد من البحوث حول الإصلاح الزراعي وعن المفاضلة بين الانتخاب الفردي والانتخاب بالقائمة, وكان أحد كتاب الأهرام الذين نعتز بهم.
أما عن زميلنا العزيز المتواضع جم الأخلاق غزير المعرفة حسن فؤاد الذي رحل و نحن وهو في دوامة العمل الصحفي وفي زخم الأحداث المتلاحقة, فلم يكن يكل أبدا ولا يهدأ, فهو مشغول دائما بالكتابة بريشة رسام يغوص في أعماق الشخصيات العالمية و المحلية التي كانت تحتل سطور مقالاته, وكان أحد أبرز الذين تمكنوا من رسم الأحداث الجارية و كأنه يرسم لوحة بقلمه الرشيق المعبر.
وأخيرا فإنني أقدم لكل الذين رحلوا عنا تحية احترام وتقدير لما قدموه لنا وللأجيال القادمة من نماذج يحتذي بها علي طريق لم يعرف سوي الخير, كل الخير لمصر وأبنائها, وقد مهدوا الطريق إلي نهضة مصرية سوف تزداد إشراقا في المستقبل القريب بإذن الله.
osaraya@ahram.org.eg