مقالات الأهرام اليومى

غبار أزمة الرسوم

وصلت أزمة الرسوم الكاريكاتيرية‏,‏ التي نشرتها صحيفة دنماركية منذ ثلاثة أشهر وتطاولت فيها علي مقام الرسول الكريم محمد صلي الله عليه وسلم‏,‏ إلي نقطة الذروة‏,‏ فلقد تجاوزت كل الأطراف بل وأصبحت تدار عن طريق ردود الفعل والاضطرابات هنا وهناك‏,‏ ونظرا لحساسية هذه القضية وتشابكها‏,‏ فإنها تحتاج إلي إدارة حكيمة تتجاوز حالة الصدام الراهنة‏,‏ وتصل الي الحوار الذي لابديل عنه من أجل تجاوزها‏.‏

وكان الرئيس حسني مبارك محقا ومدركا التأثيرات المترتبة علي نشر هذه الرسوم عندما حذر مبكرا من تداعيات حملة الإساءة إلي الإسلام في الأجلين القريب والبعيد‏,‏ حيث أشار إلي أن المساس بالعقائد الدينية يعد أكبر خطر يهدد الاستقرار في العالم‏,‏ وأن حرية التعبير التي نحترمها‏,‏ ينبغي ألا تكون ذريعة للنيل من المقدسات والمعتقدات والأديان‏,‏ وكانت رسالة مبارك واضحة للعالمين الإسلامي والغربي‏,‏ وهي التعامل بكثير من الحكمة مع كل مايمس معتقدات البشر وأديانهم ومقدساتهم‏.‏

وتلك الحكمة البارزة في سياسة الرئيس ورؤيته هي التي تكسب السياسة المصرية مكانتها وعمقها علي مختلف الأصعدة‏,‏ خاصة عندما تختلف الرؤي أو تتصادم مثلما هو الحال في الموقف الراهن‏.‏

وعلينا أن نتوقف قليلا أمام بضعة رسوم كاريكاتيرية لرسام جاهل أو حاقد أو موتور نشرها في صحيفة لم يسمع بها أحد من المسلمين من قبل‏.‏ وهذه الرسوم استدعت من أحداث التاريخ القديم والحديث مشاعر غضب تراكمت بفعل سلسلة من الأزمات السياسية والدينية والثقافية‏,‏ التي ميزت خطوط التماس بين الحضارتين الإسلامية والغربية فترة طويلة من الزمن‏.‏ فتاريخ العلاقة بين الحضارتين كان أقرب إلي التوتر منه إلي الوئام‏,‏ ولم تفلح أي من الحضارتين‏,‏ في طورهما المعاصر‏,‏ في تحقيق مصالحة تاريخية حتي جاءت الأحداث والتنظيرات لتنذر بتحول العلاقة بينهما من التعايش إلي الصدام‏.‏ واثبتت الأحداث أن تاريخ العلاقة بين الحضارتين يمارس ضغوطه علي واقعيهما المعاصر بقوة أكبر من تقديرنا لها‏.‏ ويلزم للقوي الفاعلة علي الجانبين أن تدرك هذه الحقيقة في صياغة مستقبل العلاقة بين حضارتين ارتبط تاريخ الأمن والسلام بهما فترات طويلة من الزمن‏.‏

ومن هنا ينبغي معالجة قضية الرسوم المسيئة إلي النبي الكريم صلي الله عليه وسلم في إطار أنها واحدة من نتائج الأزمة الكامنة في العلاقة بين الغرب والإسلام‏,‏ فهي ليست الأولي من نوعها وليست الأكثر تأثيرا في تشويه صورة الإسلام ونبيه المرسل في العقل الغربي‏.‏ فكتب المستشرقين وأفلام السينما وغيرهما مملوءة بما هو أكثر إساءة من تلك الرسوم إلي النبي الكريم صلي الله عليه وسلم ومن تبعه من المسلمين‏.‏ إلا أن الهجوم علي الإسلام قد تصاعد بكثافة غير مسبوقة في السنوات الأخيرة‏,‏ وذلك في الوقت الذي مارس فيه السياسيون الغربيون سياسات أكثر عدائية نحو الدول الإسلامية‏.‏ فما حدث في سجن جوانتانامو من تدنيس للقرآن الكريم‏,‏

وما حدث في سجن أبو غريب في العراق من انتهاكات لحقوق الإنسان‏,‏ وكذلك التمييز ضد المسلمين في بعض الدول الغربية‏,‏ يظل جزءا من إطلالة الغرب علي الإسلام والمسلمين في الفترة الماضية‏,‏ كما أن التضامن الأهوج‏,‏ الذي أبداه الكثير من الصحف الغربية مع الصحيفة الدنماركية‏,‏ بإعادة نشر الصور المسيئة إلي النبي صلي الله عليه وسلم بعد احتجاجات المسلمين‏,‏ قد كشف عن أحقاد كامنة وراء التذرع بحرية التعبير‏,‏ وقد بدا الأمر وكأن قوي غربية تريد أن تستجمع قواها في مواجهة جمهور المسلمين الغاضب‏.‏

وعلي الجانب الإسلامي كان خروج المظاهرات والمسيرات وظهور دعوات المقاطعة تعبيرا عن رفض الموقف الذي اتخذه الأوروبيون من الأزمة‏,‏ علي خلفية جراح مازالت تنزف في كثير من مناطق العالم الإسلامي بفعل السياسات الغربية‏,‏ وسياسات الحصار والتفرغ لشئون العالم الإسلامي تحت مسميات تعددت وتباينت‏.‏ وأخشي أن تنحصر مهمة الوفود الغربية الدينية والسياسية‏,‏ التي زارت بعض دول العالم الإسلامي أخيرا‏,‏ في تجاوز الأزمة الطارئة لكي تطوي مشاعر غاضبة مؤقتا‏,‏ ولا تعمل من أجل توفير حلول دائمة لمشاعر وعلاقات مرشحة للتوتر في المستقبل‏.‏

وأحسب أن فقهاء المسلمين وباحثيهم وسياسييهم أيضا مطالبون بدورأكثر فاعلية في تجسير الفجوة القائمة‏.‏ فالدور المنتظر من العالم الإسلامي ينبغي أن يتجاوز ردود الفعل بشأن الصور المسيئة إلي استراتيجية طويلة الأمد‏,‏ تعني بتحقيق الفهم المتبادل‏,‏ وتنقية العلاقات بين الشعوب‏,‏ وتحييد أزمات التاريخ التي تمارس ضغوطها علي حاضر الحضارتين ومستقبلهما‏.‏

فالعلاقة بين الإسلام والغرب أكبر من بضعة وفود أرسلت لتحسين صورة الإسلام في بعض العواصم الغربية وهي أوسع مجالا من قناة فضائية أعلن إنشاؤها علي عجل لشرح مفاهيم الإسلام في رد فعل سريع لأزمة الصور المسيئة‏.‏ ونحن في حاجة إلي استراتيجية عمل طويلة يشارك فيها المسلمون والغربيون أيضا‏,‏ وترتكز علي المشاركة الواسعة من قطاعات‏:‏ التعليم والثقافة والفن والإعلام والبحث العلمي والدبلوماسية وغيرها‏,‏ وتستعين بدور فعال ومؤثر للأقليات المسلمة في الدول الغربية‏.‏ استراتيجية عمل إسلامية لاتخضع لأولويات دولة دون أخري من دول العالم الإسلامي‏.‏ فالعمل الإسلامي في أوروبا يتسم بكثير من عدم التجانس لأنه ببساطة يخضع لمصالح وطنية ضيقة‏.‏


جذور التطرف
في غمرة هذه الأحداث المتلاحقة‏,‏ فإن جذور المشكلات التي تتسبب في التطرف وتؤجج الصراعات‏,‏ يجب أن تكون حاضرة في أذهان العقلاء‏.‏ فليس الشرر المتطاير أو الغبار الظاهر هو المسئول وحده عما يحدث الآن‏,‏ فلقد بح صوت الجميع في تأكيد أن عدم حل المشكلات القائمة في المنطقة منذ فترة الحرب الباردة‏,‏ وعدم اتخاذ مواقف متوازنة تؤدي إلي إنهائها استنادا إلي توازنات الحقوق‏,‏ أو حتي المصالح‏,‏ تمثل أسبابا عميقة للتطرف‏,‏ وقد أسهمت التأثيرات السلبية للحرب ضد الإرهاب في إثارة مشاعر إضافية لدي الجميع‏,‏ وكانت المؤشرات تتوالي من كل جانب علي أن هناك مشكلة‏,‏ وأن الأمور قد تجاوزت السياسة إلي الثقافة‏,‏ وتجاوزت المصالح إلي المشاعر‏,‏ وأن قوي التطرف علي الجانبين تتنامي‏,‏ وتصل إلي مواقع لم تكن هي نفسها تتخيل إمكان الوصول إليها‏,‏ وأن كل ذلك سيفجر الوضع بأشكال لايمكن توقعها في كثير من الأحيان‏..‏ لكن تلك الأصوات لم تستمع إلي نداءات العقل‏,‏ واستمر الامعان في أعمال الاستهداف‏,‏ وعدم أجراء حسابات دقيقة للمواقف‏,‏ في ظل عدم فهم لما يجري تحت السطح‏.‏

من جانب آخر‏,‏ فإن رد الفعل ـ مثل الفعل ـ يحتاج إلي وقفة صريحة مع الذات‏,‏ فكون المسألة مستفزة إلي أقصي حد لمشاعر كل المسلمين‏,‏ لاينفي أنه كانت هناك منذ البداية أسئلة تحتاج إلي إجابات حول ماحدث‏:‏

فلماذا تخلت جموع المسلمين عن روح التسامح التي تمثل قيمة إسلامية أصيلة‏,‏ ورفعت‏,‏ خلال الاحتجاجات‏,‏ شعارات حول الأخطاء التي لاتغتفر والموت للآخرين؟‏..‏ لقد بدا أن الشارع الإسلامي مندفع‏,‏ بصورة لايمكن مخاطبتها‏,‏ في اتجاه شن حرب علي كل مايمت لقيم الآخرين ورموزهم أيضا بصلة‏,‏ وضاعت أصوات العقل التي أطلقها علماء مسلمون أجلاء ومفكرون عرب عقلاء أكدوا أن ما حدث يمثل فرصة للتعريف بالإسلام الحقيقي‏,‏ وليس مناسبة للتفكير في تأديب المخطئين‏.‏

كما يجب أن نستمع إلي للاعتذارات التي بدأت تتوالي من جانب الصحف والمسئولين في الدنمارك بشأن ما حدث ولرؤساء الوزراء الأوروبيين وكبار المفكرين الغربيين الذين بادروا إلي العمل علي عودة الوئام‏,‏ وإلي محاولات التفسير التي حاولت وفود كثيرة أن تقدمها لما جري‏.‏

وأقول بكل وضوح إن عدم الاستجابة للعقل والعودة إلي دراسة الملابسات‏,‏ وعدم تجاوز تلك الأزمة بشكلها الظاهر والكامن بحوار خلاق سوف تكون نتيجتها الحتمية وقوع تطرف شديد علي الجانبين‏.‏ ولاشك أن استمرار الوضع بهذه الصورة لن يخدم سوي أهداف المتطرفين علي الجانبين‏.‏

فالعقدة الحقيقية للموقف الحالي تتمثل في أن أهداف المتطرفين لاترتبط فقط بالخارج‏,‏ وإنما لها علاقة أيضا بالداخل‏,‏ فمن يصعدون الموقف بصورة غير عقلانية في العالمين العربي والإسلامي يستهدفون الغرب بالتأكيد‏,‏ ويستهدفون أيضا فرقاء الداخل من المعتدلين الذين غضبوا لما حدث‏,‏ لكنهم لم يفقدوا عقولهم‏,‏ وفقا لقواعد لعبة المزايدة المعروفة‏,‏ ومن يصرون في الجانب الغربي علي إعادة نشر الصور في ظل ما يعتقدون أنه اختبار لحرية التعبير في بلدانهم‏,‏ يستهدفون التيارات الأكثر عملية وعقلانية في دولهم‏,‏ والنتيجة هي الاندفاع نحو أكثر من صدام‏,‏ ليس فقط بين الحضارات المتعددة‏,‏ ولكن أيضا داخل كل حضارة علي حدة‏.‏

وعندما نعترف بأن الوضع الراهن قد وصل إلي منحني خطير‏,‏ فإننا لانكون مبالغين أو مخطئين‏,‏ ومن هنا أقول إنه يجب علي كل الأطراف أن تعمل جاهدة لوقف التقدم الحالي نحو الصدام بين الشرق والغرب‏,‏ فهذا الصدام سوف يضر بمصالح الجميع‏,‏ بل سوف يحرق أصابع كثيرة داخل الدول نفسها‏.‏

ونعتقد أن السعي بجدية في الفترة المقبلة لتجنب الصدام لن يكون كافيا وحده‏,‏ بل لابد من أن يتوازي ذلك مع حركة حقيقية للعودة إلي الحوار‏,‏ فربما يتم اكتشاف أن ما حدث كله ـ برغم قسوته علي الجميع ـ فرصة لتفاهم أفضل بين الغرب والشرق‏,‏ استنادا إلي أسس توجد بالفعل مداولات حولها‏,‏ وربما يكون أيضا فرصة لبعض من تابعوا الأزمة عن بعد لتعديل بعض السياسات التي توجد الاحتقانات‏,‏ أو تثير التوترات‏,‏ ووقتها سوف نقول رب ضارة نافعة‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى