ضمير الوطن وكارثة العبارة

في نفس المكان ولنفس السبب وعلي الوسيلة نفسها غيب الموت في أعماق البحر الأحمر العبارة السلام98 ونفوسا كثيرة كانت تتوق إلي لقاء الأهل والأحباب بعد غياب امتد سنوات طويلة كانوا خلالها يسعون في دروب الأرض من أجل الرزق وكسب أسباب الحياة. صحيح أنه في كل أرجاء الأرض تقع كوارث بشرية وطبيعية تضرب آمال البشر وتخطف أرواحهم, ولكن الاستعداد لهذه الكوارث ومواجهتها بالأساليب العتيقة التي عفا عليها الزمن يظل خطيئة يتحملها الإنسان وحده, ولاذنب فيها للطبيعة, ببحارها وأمواجها وظروفها الجوية. فلقد ابتلع البحر الأحمر عبر سنوات قليلة أرواحا كثيرة منا لم تكن في رحلة مغامرة أو اكتشاف للمجهول, ولكنها كانت تسلم أمرها لواحدة من أكثر وسائل النقل أمانا. وتنساب سفنها في بحر هو أقرب إلي البحيرة الهادئة الوديعة منه إلي البحار الهائجة المائجة في رحلات يومية معتادة. ولاشئ يتربص بأرواح المسافرين فيه سوي الفوضي والإهمال والعشوائية التي تتسع يوما بعد يوم في التخطيط والتنفيذ والمتابعة وتسيير أمور الحياة اليومية. حتي أصبحت للإهمال رؤوس كثيرة يطل بها علي حياتنا العامة والخاصة. وها هو قد أطل من جديد بوجهه القبيح علي طريق الصعيد والغردقة ثم وجد صيده الكبير في عرض البحر فوأد أحلام العائدين واغتال لهفة المنتظرين. وأمام هذه الكارثة المفجعة وفوضي الأجهزة الرسمية في معالجة آثارها, تدخل الرئيس حسني مبارك ليقيل تلك الأجهزة من عثرتها, ويستعيد ثقة في أدائها كادت تضيع بسبب التراخي والإهمال, ويخفف من المأساة التي فجعت مشاعر المصريين جميعا, مترجما صحوة مصر ومعبرا عن ضمير الوطن اليقظ. وقد جاء تصريحه في هذا الصدد قاطعا وواضعا حدا لمسلسل الإهمال, مؤكدا أن المسئولين عن غرق العبارة لن يفلتوا من العقاب. ولا أدري لماذا يتعين في كل حالة أن يتدخل الرئيس؟ فلقد تدخل بالمتابعة الدقيقة لأنشطة البحث والإنقاذ وتدخل بزيارة الناجين الجرحي في المستشفيات, ثم عقد اجتماعات مطولة مع مسئولي الأجهزة المعنية بالنقل البحري والإنقاذ, وقام بمواساة حقيقية لأسر الضحايا, وهز البيروقراطية العتيقة بصرف تعويضات لأسر الضحايا والناجين الذين خذلت مشاعرهم أجهزة كثيرة. هذه الأجهزة التي تركت ضباط الشرطة وجنودها في مواجهة المواطنين الغاضبين الذين ضاق صبرهم وفاض حزنهم أمام فوضي إدارة الأزمة. فاندفعوا إلي أعمال جاوزت الحدود وهو مالم تستطع أجهزة الشرطة السكوت عنه. وقدر الشرطة في مصر هو أن تتحمل ضعف أداء المؤسسات الأخري وتهاونها. فلقد أدي ضعف إدارة الأزمة إلي دخولها طرفا في مأساة ليست من صنعها, ومهمة ليست من مهامها. ومع استمرار الترهل في جسد هذه الأجهزة وعجزها الواضح في أداء المهام المكلفة بها سوف تتحمل الشرطة جانبا من مواجهة هذا الترهل وذلك الإهمال. وإذا كانت الأزمات تمثل لحظات فارقة في حياة الشعوب, فإن إجراءات طويلة وكثيرة تنتظر قطاع النقل البحري, خصوصا أن سواحل بلادنا تمتد لما يزيد علي ألفي كيلومتر وعدد المسافرين بالبحر من المصريين يتجاوز مليون راكب سنويا. وبالنسبة لعبارة السلام98 فلقد اشار الجميع بأصابع الاتهام إلي الشركة المالكة للعبارة من منطلق أن سلامة العبارة وأمنها وصلاحيتها تعد مسئولية الشركة التي احتكرت معظم حركة النقل البحري في هذه المنطقة دون سبب واضح أو معلن. وبالطبع فإنه لا أحد يبرئ الشركة المالكة من المسئولية, ولكن شركاءها في المسئولية كثيرون, ولابد من حصرهم وحسابهم ومراجعة أدائهم جميعا. والحقيقة أن التصريحات والبيانات حول السفينة الغارقة شديدة التناقض, وهو مايزيد الأمر سوءا. فالشركة المالكة تقول إن العبارة تنطبق عليها معايير السلامة الدولية وإنها خضعت للفحص مرتين العام الماضي. وهناك شهادات لخبراء بريطانيين وفرنسيين وسويديين تقول إن هذه السفينة أضيفت إليها طوابق أخري لزيادة قدرتها الاستيعابية مثل سيارات نقل الركاب بالأقاليم, وإنها تعاني خللا في التصميم, وإن ملكيتها انتقلت إلي الشركة الحالية بعد أن أوقفها المالك الأصلي عن العمل عندما اكتشف وجود عيوب في التصميم بعد حادث غرق العبارة أستونيا ـ من طراز العبارة السلام ـ في بحر البلطيق عام1994 وهو الحادث الذي أودي بحياة أكثر من500 راكب. وهناك معلومات أخري تتعلق بعمر السفينة. منها أنها بنيت عام1970, وهنا يبرز السؤال: هل ترتبط الصلاحية بعمر السفينة أم أنها ترتبط بمدي صلاحيتها للملاحة؟ وهل كانت بالفعل صالحة أم لا ؟. | |
وإذا كان سيناريو غرق العبارة هو أسوأ فصول الكارثة فإن أسلوب إدارة أزمتها المفاجئة في عرض البحر وفي الموانئ والمستشفيات كان أمرا مريعا أيضا. فقد امتد سلطان الفوضي من تدابير أمن السفينة وسلامتها إلي عمليات الإنقاذ وحتي استقبال فيضان التساؤلات حول من نجا ومن ابتلعه البحر. حيث غابت المعلومات وحلت محلها التكهنات والتأويلات وشهادات الناجين, الذين كانت ملابسهم لاتزال تقطر ماء ويرتسم علي وجوههم الفزع من هول ما رأوا. واغتالت الأقاويل المرسلة ربان السفينة الذي يعلم الله مصيره, فلقد اتهمه الجميع بالهروب دون سند واحد يؤكد هذا الاتهام. وحين غرقت السفينة لم يكن أحد يعلم أين يسأل عما يريد الاستفسار عنه؟ ولمن يتوجه بالسؤال. لقد سادت الفوضي وغابت المعلومة الحقيقية في فيضان من الأقاويل والتكهنات. ولابد من إعادة فتح ملف النقل البحري بكل تفاصيله, وإعادة هيكلة هذا المرفق الحيوي. الذي تسوده قوانين وتنظيمات وهياكل إدارية واهية. بل لا أبالغ إذا قلت إنها هياكل وهمية. وبالرغم من مرور أيام علي غرق العبارة فإن أحدا لايدري علي وجه اليقين لماذا تأخرت عمليات الإنقاذ إلي هذا الحد ؟ ولماذا كان موقف الشركة المالكة للعبارة متراخيا إلي هذه الدرجة بعد فقد الاتصال بها ؟ ولماذا تكررت حوادث غرق العبارات بين الساحلين المصري والسعودي بهذا العدد الكبير؟ ولماذا ترك هذا الخط الملاحي بكثافة مسافريه دون تدابير واقية حقيقية ؟ ثم إلي أي مدي كان حجم الكارثة سيتسع إذا لم تتدخل القوات المسلحة؟ إن الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلب بحثا منظما وتحليلا متعمقا للوصول لمعلومات حقيقية. ولكن المشكلة الأكبر هي: أننا لاندري ما الذي نفعله بالمعلومات إذا أصبحت بين أيدينا؟. فلقد تركت حوادث غرق العبارات في البحر الأحمر من قبل قدرا هائلا من المعلومات, ولكنها لم تدفعنا إلي فعل شيء نتقي به كوارث وقعت وضحايا سقطوا في قاع البحر. وهنا يبرز السؤال الأهم: لماذا لاتفيدنا خبرات السنين وتجارب الماضي ؟ لقد كتبت في الأسبوع الماضي عن القضية الغائبة في بيان الحكومة وهي مواجهة تلك الآفة التي تضخمت وتوحشت وأصبحت تهدد سبيل كل حياة آمنة. وأقصد بها الفوضي والعشوائية وغياب النظام والقانون. وأعود هنا فأقول إن مشاعرنا قد فاضت حزنا علي الذين ماتوا في عرض البحر فزعا وغرقا, ولابد أن تفيض خوفا علي الذين يتربص الإهمال بهم تحت أسقف العمارات وعلي خطوط السكك الحديدية وفي شوارع المدن وعلي الطرق السريعة, ويقتضي الأمر في كل مكان حذرا ومهارة تليق بمجتمع دخل منذ عقود طويلة حياة العصر الجديد. بعد أن كشفت كارثة غرق العبارة السلام98 عن أوهام كثيرة خدعتنا بأسمائها, فتغافلنا عن حقيقة ما تقوم به وجدواه من لجان وهيئات للتفتيش والمتابعة والرقابة والفحص والتدقيق والتقويم والتجديد وغيرها. فحينما وضعت هذه المسميات علي المحك كانت النتيجة دمعات محتبسة في مآقي عيون لاتستطيع من هول ما حدث أن تذرفها. وفي هذا الصدد أؤكد أننا بحاجة إلي إنسان يليق بالعصرالجديد. إنسان لاينقسم لديه اليوم إلي قسمين, ولاينقسم النهار عنده إلي ثلاثة أقسام, وإنما ينقسم إلي ألوف الأقسام, فلقد أصبحت الثانية وحدة فارقة بين السلامة والكارثة. نعم إننا نريد إنسانا يضيء نفسه شعورا بالمسئولية, ويهون لديه في سبيلها الوقت والجهد والنفس, ويري الدنيا والآخرين سبيله إلي الآخرة. ويجد في نفسه منظومة جديدة من القيم والاستعداد للتضحية. وعلي جانب آخر أقول إن نظرة أكبر وأعمق لسواحلنا والبحار المحيطة بنا جديرة بأن تضيف إلينا كثيرا من الموارد والخبرات. فهذه البحار مازالت أرضا مهجورة وقد اكتفينا منها بالملاحة عبر سفن عاشت سنوات طويلة من الخدمة الشاقة فآثرت الموت غرقا. ولو أن البحار نالت منا اهتماما أكبر لكان الحال غير الحال, وما كنا لنواجه الكوارث بأسباب واهية من صنع أيدينا, ولجعلناها مصدر قوة وثروة, بدلا من أن تصبح مقبرة عميقة لأرواح بريئة. وفي هذا الصدد أذكر أن من بين الكتب التي غيرت وجه التاريخ كتاب ألفريد ماهان عن تأثير البحار في مسيرة الحضارة الإنسانية. وهو واحد من أفضل ما كتب عن البحار ودورها في تطور الحضارة. فالبحار التي ظل الإنسان يخشاها طويلا, أصبحت هي وسيلته فيما بعد لاكتشاف الثروات وربط موارد الكرة الأرضية ببعضها بعضا. وبفضلها تمكن من بناء الإمبراطوريات وتنويع ثروات الأرض التي ولد فيها. وإذا كان كتاب ماهان قد أحدث ثورة في علاقة الإنسان بالبحار, فإن مستقبل الإنسان علي الأرض مازال مرهونا بالمزيد من الاكتشافات لأعماق البحار والسيطرة عليها وكبح جماح أمواجها. وليست هناك أمة عظيمة في الماضي أو الحاضر إلا وكان البحر أحد مصادر قوتها وعظمتها. فلنجعل من هذا الحادث المأساوي المفجع مصدرا للقوة, يصنع لنا مسارا جديدا للتغيير في أوجه حياتنا.فلقد عشنا الآلام مع كل أسرة وكل أب وأم وطفل. وبدا ذلك واضحا في التحرك الشعبي بكل أنحاء مصر, وكانت تبرعات المواطنين ترجمة عملية للإحساس بالألم الجمعي, والتوحد مع حق كل مواطن في أن نشاركه أحزانه ونعيش معه لحظات المعاناة. ولعل هذه الصحوة المجتمعية تدفعنا إلي فعل حقيقي يهزم الإهمال والتراخي ويحاكم الفساد ويعزل المفسدين, ويضيف إلي زخم التحولات السياسية والاقتصادية وقودا يزيد من سرعات التغيير والتحول والعبور إلي المستقبل. | |