الإصلاح في بيان الحكومة

رسمت ثلاث وثائق متتابعة ملامح المستقبل السياسي والاقتصادي لمصر خلال الفترة المقبلة. وسوف تظل هذه الوثائق مرجعا له أهميته في تقويم الأداء السياسي والاقتصادي للدولة والمجتمع علي السواء. والحقيقة أنها تستحق الإجماع من مختلف القوي السياسية والاجتماعية المصرية علي الأهداف التي ترمي إليها. فالتعددية السياسية واختلاف الآراء والاتجاهات لاتنفي حاجة المجتمع إلي قدر من الإجماع, يصون حركته ويسدد خطاه ويستجمع طاقاته, من أجل ما انعقدت عليه آمال المواطنين. ومهما يكن حجم الإجماع الذي حظيت به الوثائق الثلاث, فإن اهميتها تأتي من كونها الفاعل الرئيسي في تحديد مسيرة العمل الوطني للمرحلة المقبلة. وأولي هذه الوثائق هي البرنامج الانتخابي للرئيس حسني مبارك بكل تفصيلاته, والذي خاض به أول انتخابات رئاسية في تاريخ مصر, وتتمثل الوثيقة الثانية في خطاب تكليف حكومة الدكتور نظيف, وقد تحددت فيه مهام الوزارة الجديدة وبرنامج عملها وإطار تقويم أدائها. أما الوثيقة الثالثة فتتعلق ببيان رئيس الحكومة أمام مجلس الشعب منذ بضعة أيام. ويوجد بين الوثائق الثلاث اتساق وبناء عضوي يشير إلي فلسفة سياسية جديدة تتشكل ملامحها الآن. ولاشك أن الوثيقة الرئاسية الأولي قد حملت وعودا وتعهدات شملت كل جوانب الحياة في مصر, وجددت كثيرا من الأمل في مستقبل أفضل لدي غالبية المواطنين. وجاءت الوثيقة الثانية تكليفا بمهام محددة ومفصلة, وإعلانا عن بدء مرحلة جديدة من مراحل تنفيذ برنامج الرئيس. وكانت الوثيقة الثالثة بمثابة التزام أمام نواب الشعب والناخبين بترجمة هذا البرنامج إلي واقع يلامس آمال المواطنين الذين طال بهم عهد بيانات الحكومات واحدا تلو الآخر. وإذا كان البعض قد شرع سريعا في نقد بيان الحكومة, استنادا إلي اختلاف أولويات الاهتمام والقضايا بين الحكومة والاتجاهات التي تمثلها هذه الأقلام, فإن كثيرا من القضايا التي تطرق إليها بيان الحكومة تمثل أهمية خاصة في الوقت الراهن دون أن يقلل ذلك من أهمية قضايا أخري تضمنها البرنامج الانتخابي للرئيس وخطاب تكليف الحكومة الجديدة. فقد كان مهما أن يتطرق بيان الحكومة إلي آليات تنفيذ السياسات والبرامج التي تضمنها, وهذه الآليات جديرة بأن تبعث المزيد من الثقة والاطمئنان في تنفيذه, وهو أكثر ما تحتاجه الحكومة الآن. تضمن البيان عشر نقاط تتعلق بخططها حول الإصلاح السياسي والديمقراطي, وهي قضية تشغل بال الكثيرين. ولو أنه تطرق إلي بعض ملامح هذه النقاط أو آليات تنفيذها لأجاب عن عشرات التساؤلات التي تطرحها القوي السياسية بشأن الإصلاح الديمقراطي. فقد أشار إلي قضايا ذات أهمية قصوي, ولكن لغة التعبير عنها كانت دون مستوي أهمية القضايا ذاتها. وكان المتوقع, أن يهتم بيان الحكومة بتفصيل ما ورد في برنامج الرئيس بشأن الإصلاح السياسي والدستوري دون أن يكون تكرارا له. فالآليات الغائبة عن بيان الحكومة كان بوسعها أن تشير إلي الدور الذي يمكن أن تقوم به مؤسسات أخري في المجتمع مع تأكيد مبدأ المشاركة بين مختلف القطاعات والمؤسسات في مواجهة تحديات الواقع. التفاؤل الحذر | |
ومهما تكن الملاحظات علي بيان الحكومة, فإن حالة من التفاؤل الحذر تسري في المجتمع بشأن الوثائق السياسية الثلاث وتأثيراتها في مستقبل العمل السياسي. والتفاؤل الذي يسود المجتمع المصري يرجع إلي الحراك والتطورات المتلاحقة التي شهدتها الشهور الماضية, والتي أوجدت مناخا مختلفا للعلاقة بين المواطن والسلطة. فقد خضع اختيار رئيس الدولة للانتخاب الحر علي أساس برنامج واضح المعالم, وأجريت انتخابات برلمانية كانت في مجملها تحديا هائلا غير مسبوق للحزب الذي تولي سدة الحكم منذ نشأته. أما الحذر الذي يخالط التفاؤل في المجتمع فيرجع معظمه إلي أسباب تاريخية صنعتها الحكومات التي تعاقبت كثيرا, ولم تكن فلسفة عملها تخرج عن تخدير الإحساس بالواقع بدلا من التحفيز علي تغييره. كما يأتي الحذر أيضا من مزاج السخط الذي ساد طويلا ولم نتخلص منه بالقدر الكافي, برغم التغيرات الكثيرة التي طالت مختلف جوانب الحياة من حولنا. الحكومة.. والحوار المجتمعي البعد الاجتماعي.. والتعليم والصحة وقد سرد بيان الحكومة قائمة طويلة بالمجالات التي يمكن من خلالها توفير فرص عمل جديدة. وأشار إلي شعار التشغيل من خلال الاستثمار وتقييد فرص العمل في القطاع الحكومي المتضخم. ويوضح البيان أن الحكومة تريد توفير فرص عمل ذات مردود اقتصادي حقيقي يدعم قدرات الاقتصاد الوطني ولاتكون عبئا عليه. إلا أن هناك حقيقة لابد من التوقف عندها في مواجهة البطالة والتوظيف الصحيح للعمالة, وهي تتعلق بالمهارات المتوافرة لدي الباحثين الجدد عن عمل. فالنظام التعليمي الراهن ـ الذي نالت الغالبية الساحقة من الباحثين عن عمل قدرا منه ـ لايساعد علي حفز مهارات العمل الحر, وحث الشباب للإقدام علي العمل المبدع ذي الجدوي الاقتصادية. وهو أيضا غير قادر علي توفير خريجين بالمواصفات التي تريدها الاستثمارات الخارجية. وحتي تتمكن الحكومة من إصلاح نظام التعليم لابد من النظر الجدي في قضية التدريب بأشكاله المختلفة. بشرط أن يقوم التدريب علي أسس مغايرة لما هو سائد الآن. فتحول التدريب في حالات كثيرة إلي مضيعة للوقت. وإذا كانت الحكومة تتيح سنويا1.5 مليار جنيه من خلال الصندوق الاجتماعي لتمويل المشروعات الصغيرة, فمن الضروري ألا نلقي هؤلاء الشباب بقروضهم في مشروعات تتطلب شيئا من الإعداد لكيفية إدارة العمل الحر. وربما تقوم الجامعات بشئ من هذا العمل لطلابها قبل التخرج, وتفتح أبوابها لغير طلابها من أجل تدريب حقيقي علي إدارة الأعمال الحرة. وعلي المدي الأبعد يجب إخضاع مناهج التعليم لفلسفة جديدة تلائم فلسفة العمل الحر. فالتلقين التعليمي السائد يهيئ عقول الشباب لأعمال حكومية روتينية, ولا يصلح لحفز روح العمل الحر. وبهذا وبغيره يمكن أن تصبح كل وظيفة جديدة إضافة حقيقية لقدرات الاقتصاد الوطني. لقد آن الأوان لأن تكون لكل الصناعات كلمة في صياغة برامج التعليم الجامعي الذي مازال حتي الآن احتكارا للمجالس التعليمية. فلماذا لايكون لصناعة السياحة كلمة في برامج التعليم السياحي, وكذلك الأمر بالنسبة للزراعة والصناعة والتعدين والبترول والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والصيدلة والطب, وغيرها من الصناعات التي تتطلب مهارات حديثة تلائم برامج التحديث في هذه الصناعات. ويمكن أن يتم ذلك من خلال ممثلين لهذه الصناعات في المجالس التعليمية العليا مع السماح لهذه الصناعات بإنشاء كليات أو معاهد عليا, توفر خريجين بالمواصفات اللازمة للتحديث. وفي مجال رعاية محدودي الدخل, أشار بيان الحكومة إلي زيادة مرتبات العاملين خلال ست سنوات بمتوسط سنوي قدره16.5%, وهو مطلب ملح وضروري, وله نتائجه علي مستويات عديدة إذا تمكنت الحكومة من السيطرة علي الأسعار, والحفاظ علي سعر الصرف, وزيادة الإنتاج المحلي. وكذلك زيادة عدد الأسر المستفيدة من الضمان الاجتماعي إلي مليون أسرة, وإنشاء كوادر خاصة لمرتبات المهنيين المتخصصين. وقد جاء بيان الحكومة في هذا المجال بالكثير من الأخبار السارة, إلا أن مشكلة الدعم تظل بلا حلول واضحة في بيان الحكومة. فالدعم أحد معايير الاهتمام بمحدودي الدخل والحرص عليهم, ولكنه فشل علي مدي سنوات طويلة في تخفيف أعباء المستهدفين به, وظل عبئا ينوء به الاقتصاد المصري. وكنت أتمني لو أن بيان الحكومة أشار, بشيء من التفصيل, إلي كيفية حل هذه المشكلة القائمة منذ ثلاثة عقود علي الأقل. فليس كافيا أن تنشيء الحكومة وزارة للضمان الاجتماعي وأن يظهر وزيرها علي شاشة التليفزيون ليعرض صورة لرغيف الخبز المرتقب, مثلما فعل غيره من الوزراء قبل سنوات طويلة. وإنما نحن في حاجة إلي حوار يفهم به المواطن مشكلات الدعم الحقيقية, ويشارك برأيه في الوسيلة الأنسب للوصول إلي المستحقين الحقيقيين. والأمر نفسه ينطبق علي بيان الحكومة بشان قضايا التعليم. فلم تعد مشكلة التعليم لدينا تقف عند حدود عدد المدارس الجديدة أو تحويل فروع الجامعات إلي جامعات مستقلة أو إنشاء هيئة قومية لضمان الجودة. وقد سبق أن أشار الدكتور أحمد نظيف في حواراته إلي أن الدولة تتحمل ستة آلاف جنيه سنويا دعما لكل طالب في المرحلة الجامعية. إننا نعلم أن تعليمنا الجامعي يعاني مشكلات لها تأثيراتها الكبيرة في نوعيته. ولكن هل يظل المصريون يدفعون في دروس أبنائهم في الثانوية العامة خمسة مليارات جنيه, ثم إذا انتقلوا إلي الجامعة دفعوا100 مليون جنيه, في الوقت الذي تستمر فيه معاناة الزحام في مدرجات الجامعات وتتناقص فرص التعليم والتحصيل؟ في رأيي أن قضية التعليم لم تعد قضية القادرين وغير القادرين, وإنما هي مشكلة اجتماعية واقتصادية وليست تعليمية. ونحن بحاجة إلي رفع مستوي التعليم أولا, لأنها قضية حياة لدولة لم تمتلك يوما أعز من قدراتها البشرية التي شاركت في نهضة دول المنطقة من حولها. أما قضية القادر وغير القادر فلها حلول كثيرة لاتقيد فرص التعليم أمام غير القادرين, فهما معا يريدان تعليما جيدا لأبنائهم. أما عن قطاع الصحة. فقد شمل البيان الكثير من النقاط, فبحلول عام2010 سوف تمتد مظلة التأمين الصحي لتشمل جميع المواطنين, وهو أمل تاقت إليه نفوس كثيرة عانت طويلا من غياب الرعاية الصحية اللازمة لهم. ويظل مستوي الرعاية الصحية قضية تحتاج لحلول جذرية. فقد أصبحت الرعاية المقبولة عالية التكلفة ولايمكن أن يتحملها الاقتصاد لجميع المواطنين بصرف النظر عن قدراتهم المادية. والحق أن العدل الاجتماعي يفرض علي الدولة أن تتحمل علاج غير القادرين فقط, ولا تتحمل نفقات علاج القادرين مهما تبلغ مكانتهم أو يبلغ عطاؤهم. صحيح أن الدولة مطالبة بأن تكافئ القادرين الذين أعطوا الكثير لبلادهم, ولكن ليس علي حساب المريض غير القادر. القضية الغائبة أننا في حاجة إلي أن نشعر بالحكومة حين نقيم أي بناء وحين نسير في الشوارع أو علي الطرق السريعة, أو حين نقف أمام موظفي الخدمات الحكومية. فشعورنا بالحكومة هو شعور بالنظام, ولاشك أن القانون يكبح فينا رغبة استقرت داخلنا بالقفز فوقه وفوق النظام معا تحت سمع وبصر الحكومة, فهل نفطن إلي هذه القضية الغائبة؟. | |