مقالات الأهرام اليومى

الشرق الأوسط بعد شارون‏..!‏

في لحظة غير متوقعة انتهي أرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل سياسيا‏,‏ وبدأ عصر جديد قد يحمل سمات عصره نفسها‏,‏ ويمكن أن نطلق عليه مرحلة شارونية جديدة ولكن بدونه‏.‏ فقد كانت السنوات الخمس الماضية في إسرائيل كافية ليعرف الجميع‏,‏ وأولهم شارون أن كل شيء قد تغير‏,‏ وأن علينا جميعا أن نستعد للعالم الجديد‏.‏

والحقيقة أن شخصية شارون المركبة قد تشكلت فيها‏,‏ وفي تناقضاتها‏,‏ وصعوباتها‏,‏ المراحل التي مرت بها دولة إسرائيل منذ قيامها وحتي الآن‏,‏ وسوف يختلف الكثيرون حول تفسيرهم لشخصيته‏,‏ لكنهم سيتفقون علي تأثيره وفعاليته‏,‏ فهو الجنرال والمزارع‏,‏ والسياسي المركب‏,‏ والشيطان والقاتل والبلدوزر‏,‏ كما لقبوه بالملك‏,‏ فهو الذي أقام المستعمرات‏,‏ وهو أول من هدمها‏,‏ وقد جعل حزب الليكود مسرحا للمتطرفين‏,‏ ثم أسس طريقا جديدا آخر‏..‏ إنه السياسي‏,‏ الذي كرهوه مرتين‏,‏ وقتلوه سياسيا‏,‏ ثم عاد من جديد‏,‏ فلقد بدأ حياته كارها لليسار ومعبودا من اليمين‏,‏ وانتهي مقوضا للاثنين معا‏,‏ وقد كرهه العرب‏,‏ واعتبروه رمزا للعدوانية والإرهاب عن حق‏,‏ فهو الذي قتل من الفلسطينيين والمصريين و اللبنانيين والأردنيين رقما قياسيا عبر خمسة عقود من الصراع المستمر علي كل الجبهات‏,‏ كما أن الجرائم معروفة باسمه‏,‏ ومحفورة كشواهد علي مرارة الحروب وقتل الأبرياء‏.‏

ولاشك أن هذه الجرائم تولد الكراهية والبغضاء بين الشعوب‏,‏ ويقف الإنسان إزاءها رافضا أن ينساها‏,‏ مصمما علي استرداد حقه بكل الطرق والوسائل المشروعة‏,‏ وهذا يدعونا إلي المطالبة بالتحلي بالشجاعة والتصميم من كل الأطراف علي كسر تلك الحالة والتكيف مع المتغيرات‏,‏ وبالطبع ليس هناك سبيل إلي ذلك إلا باسترداد حقوق جميع الأطراف‏,‏ خاصة الفلسطينيين الذين دفعوا‏,‏ ومازالوا يدفعون ثمنا باهظا في صراعهم مع إسرائيل‏.‏

إن اللحظات التي يعيشها شارون الآن تعد مفارقة تستحق الانتباه‏,‏ فهو يرقد الآن في مستشفي هداسا بالقدس‏,‏ وحوله الأطباء يبذلون كل مافي وسعهم لإيقاظه برائحة شواء اللحم‏,‏ وموسيقي موتسارت‏,‏ فها هو المقاتل العنيد والسياسي الذي حاول أن يسبر الحقيقة‏,‏ ويصل إلي الحل‏,‏ يعيش لحظة المرض‏,‏ وهي لحظة لها حساسيتها‏,‏ التي تجعل الجانب الإنساني يتغلب علي ماعداه من جوانب أخري وتدعونا إلي أن نتمني له الشفاء‏.‏

ولكن تعالوا نقرأ الأحداث بمنظور سياسي‏,‏ فمما لاشك فيه أن مسئولا بحجم شارون‏,‏ ستكون لغيابه تأثيرات عديدة في الشرق الأوسط‏,‏ ويجب أن نستعد لها بالكثير من الإجابات الغائبة عن تساؤلات كثيرة‏,‏ مازال يفجرها مسرح الصراع العربي ـ الإسرائيلي‏,‏ بشقيه الداخلي في إسرائيل من ناحية‏,‏ والعلاقات مع الفلسطينيين و العرب من ناحية أخري‏.‏

فإذا نظرنا إلي داخل إسرائيل سنجد أنها تواجه نفس السؤال الكبير نفسه في عهد شارون‏2005,‏ والذي واجهته عند قيامها في عهد ديفيد بن جوريون عام‏1948,‏ وهو‏:‏ هل تحتل كل أراضي فلسطين التوراتية‏,‏ وتفقد يهودية الدولة أم تحافظ عليها‏,‏أم تترك أجزاء وتنسحب من الأراضي الفلسطينية؟ إنه سؤال صعب لم يستطع شارون الإجابة عنه برغم بداية انسحابه الأحادي وترك مستعمرات في قطاع غزة‏.‏

ومن داخل إسرائيل أيضا ومع بداية هذا العام‏,‏ هناك تغيرات ملموسة نستطيع من خلال التعرف عليها أن نقيم سياستنا العربية المستقبلية معها‏,‏ فإسرائيل التي نعرفها قد تغيرت وتموج فيها حوارات واسعة‏,‏ ومناقشات تصل إلي حد الانقسام حول المستقبل في مرحلة توصف حاليا بتبادل الأجيال‏,‏ فالجنرالات المؤسسون للدولة يغيبون عن الحكم الفعلي لكن أفكارهم ورؤاهم السياسية مازالت تسيطر علي الأحزاب القديمة والجديدة معا‏,‏ ونلاحظ أيضا أن المجتمع الذي حكمه‏,‏ في سنواته الأولي‏,‏ نموذج الصهيونية الاشتراكية لم يعد قائما الآن‏,‏ وهذا ما يفسر انهيار حزب العمل‏,‏ وعدم قدرته علي إقناع الناخبين بسياساته الحالية أو المستقبلية‏.‏

أيضا حدثت تحولات كبيرة في تشكيل الهوية الإسرائيلية‏,‏ بل إننا إزاء ما نستطيع أن نسميه التحول الثقافي الإسرائيلي‏,‏ فالأجيال الجديدة لم تعد مرتبطة بالأشكال الثقافية التي كانت موجودة منذ قيام دولة إسرائيل‏,‏ وتتجه حاليا نحو الثقافات الجديدة المرتبطة بالعولمة والأفكار المعاصرة السائدة في أمريكا وأوروبا بل في معظم دول العالم‏,‏ والعنصر الحاسم فيها هو سيادة القيم الفردية بدلا من الميول الاشتراكية السابقة‏.‏

وعلي صعيد آخر فإننا نستطيع أن نرصد تحولا مهما في بنية الجيش‏,‏ ونظرية الأمن الإسرائيلي‏,‏ فهم يتخلصون الآن مما كان يعرف بجيش الأمة أو الشعب الذي يعتمد علي الاحتياط‏,‏ والذي كان يعتبر كل مواطن جنديا تحت السلاح‏,‏ ليصبح جيشا عالي التجهيز من الضباط والجنود المحترفين‏,‏ كما أن نسبة التجنيد في الجيش لم تتجاوز في العقد الأخير‏55%‏ من الشباب‏,‏ وأكثر من خمس المجندين لم يكملوا فترة تجنيدهم‏.‏ ومن الناحية الاقتصادية‏,‏ سقطت فكرة الهستدروت مع اتجاه الاقتصاد نحو الخصخصة والاهتمام بالشركات العالمية والقطاع الخاص‏.‏

وفي هذا الإطار نستطيع أن نفهم التحول الداخلي الخاص نحو رفض أسلوب إقامة المستعمرات في المستقبل‏,‏ وعلي المستوي السياسي نلاحظ ظاهرة إسرائيلية جديدة هي ضعف الأحزاب السياسية ومؤسساتها‏,‏ وصعود فكرة الخطاب السياسي والإعلامي المتلفز الذي يقوم الآن بدور أكبر من الدور المنوط بالأحزاب‏,‏ وما استتبع ذلك من ظاهرة الشخصنة في الحياة السياسية في إسرائيل‏.‏

ظهر ذلك بوضوح في تطورات شخصية شارون السياسية الذي انقلب علي نفسه من عدائه للإعلاميين والصحافة ـ فهو لم يدل بأحاديث علي مدي‏24‏ عاما ـ إلي إعلامي‏,‏ يقولون عنه إنه لبق‏,‏ وقادر علي محاورة الجميع‏,‏ وقد اعتمد عند قيامه بإنشاء حزب كاديما علي جذب الأشخاص والنجوم‏(‏ مثل أولمرت وبيريز وغيرهما‏)‏ وليس علي إقامة المؤسسة السياسية‏,‏ كما عرف عن الأحزاب الإسرائيلية في الماضي‏.‏

هناك أيضا متغيرات كثيرة ومهمة للفهم والدراسة‏,‏ أهمها تحولات نظرية الأمن‏,‏ فاللجنة التي صاغها دان ميردور حول صياغة نظرية الأمن أقرت الشهر الماضي أن عملية احتلال الأراضي‏,‏ لم تعد ركنا أساسيا في ضمان الأمن‏,‏ وهذا لا يعني أنهم سينسحبون من الأراضي المحتلة بسهولة‏,‏ كما أن هناك مطالبة من الداخل بصياغة وإقرار دستور للبلاد‏,‏ وتوجد لجنة تعمل علي صياغته‏,‏ وكذلك فإن الهجرة الواسعة من دول الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية وإثيوبيا قد أوجدت وضعا جديدا يطلق عليه تكريس فكرة المجتمع الاثني‏(‏ يهود روس ـ أوروبيون ـ أثيوبيون‏)..‏ وهكذا‏.‏

ويشيرون إلي أن لحظة تبدل الأجيال في الطبقة والأحزاب الحاكمة تجيء متوائمة مع هذه التغييرات التي حدثت في المجتمع‏.‏

ولعل أبرز تطور هو أن حزب كاديما الذي ظهر في الفترة الأخيرة تحت قيادة شارون وضم سياسيين سابقين من الليكود والعمل‏,‏ لم يكن خيارا لشارون وحده‏,‏ وإنما جاء استجابة لواقع إسرائيلي جديد‏,‏ فقد استفاد شارون من تلك اللحظة‏,‏ ويدعم ذلك أن كل أو معظم استطلاعات الرأي في إسرائيل أكدت صعود الحزب سواء في وجود شارون أو في غيابه‏,‏ فهناك حاجة لدي الناخب الإسرائيلي لهذا التغيير السياسي الجديد‏,‏ وعلي الرغم من التغييرات التي ظهرت لدي اليسار الإسرائيلي‏,‏ تحت زعامة عمير بيرتس‏,‏ الذي يتجه إلي تسوية دائمة‏,‏ ودولة فلسطينية يتفق عليها الحزبان العمل والليكود اللذان يتفقان أيضا‏,‏ ولأول مرة‏,‏ علي أن خريطة الطريق لم تعد موجودة‏,‏ وأنها شماعة قديمة للجمود‏,‏ وأن حزب كاديما نفسه وضع خطته للتسوية بإسقاط الخريطة والتفاوض مع الأمريكيين للوصول إلي الحدود العربية ـ الإسرائيلية‏.‏ ويري بيرتس أن الخريطة ليست قدس الأقداس‏,‏ وأنها ليست شرطا لمفاوضات التسوية الدائمة‏,‏ بل يمكن القفز عليها‏,‏ ويري أيضا أن خريطة الطريق ستؤدي إلي إقامة دولة فلسطينية مؤقتة ستبقي معادية لإسرائيل‏,‏ أما إقامة دولة فلسطينية في إطار تسوية دائمة فسوف تكون ذات طابع ودي لإسرائيل‏,‏ ومن هنا فإنه يجب السعي إلي التسوية الدائمة بدلا من خريطة الطريق‏.‏

ويشير الواقع في إسرائيل الآن إلي أن الأحزاب لا تتجه نحو إلغاء خريطة الطريق رغم رفضها‏,‏ وذلك باعتبارها واقعا بين إسرائيل والفلسطينيين وبرعاية الولايات المتحدة الأمريكية والإشراف الدولي‏,‏ ولكنهم في الوقت نفسه يعترفون بأن خريطة الطريق قابلة لتفسيرات عديدة‏,‏ بل يمكن أن يقبل بها اليمين المتطرف واليسار المتطرف علي حد سواء علي أساس أنها تحمل إمكان قيام دولة فلسطين‏,‏ ولكنها في الوقت نفسه تشير إلي إمكان حدوث جمود عميق‏.‏

وأستطيع القول‏:‏ إن التغييرات في إسرائيل بعد شارون والانتخابات المنتظرة في نهاية مارس المقبل‏,‏ ليست وحدها الأحداث المهمة في المنطقة‏,‏ بل إن الوضع الفلسطيني الداخلي هو الأهم‏,‏ فصمود الفلسطينيين الكبير‏,‏ هو الذي أحدث الكثير من المتغيرات‏,‏ وإذا أضفنا إليه المتغيرات العالمية والإقليمية مع استمرار حفاظ الفلسطينيين علي وحدتهم الداخلية‏,‏وقدرتهم علي لجم بوادر الحرب الأهلية أو الفوضي الداخلية‏,‏ مثل التي ظهرت واضحة في الاضطرابات الأخيرة في قطاع غزة خاصة‏,‏ علي الحدود المصرية ـ الفلسطينية‏,‏ فسوف يكون ذلك إشارة واضحة علي استمرار التماسك‏,‏ بين الفلسطينيين وقدرتهم علي الحصول علي حقهم المشروع وإقامة دولتهم المستقلة بعد أطول قتال وصمود عرفه التاريخ‏.‏

لقد كسب الفلسطينيون الكثير‏,‏ خاصة في السنوات العشر الأخيرة‏,‏ صحيح بخسائر كبيرة وضحايا وشهداء ومعاناة لكل طوائف الفلسطينيين في غزة والضفة‏,‏ وداخل إسرائيل وفلسطينيي الشتات‏,‏ ولكنهم سوف يحصدون ثمار جهدهم‏,‏ ولاشك أن المتغيرات الجارية الآن في إسرائيل واقتناع كل القوي ـ بما فيها اليمين بمختلف أشكاله ـ بالدولة الفلسطينية المرتقبة‏,‏ وتحرير غزة‏,‏ ودفع إسرائيل للانسحاب الجزئي الأول من الضفة الغربية‏,‏ وفتح الممرات‏,‏ وتنظيم التنقل بين القطاع والضفة والاعتراف بحق الفلسطينيين في غزة بالتنقل عبر معبر رفح مع مصر‏,‏ تعد كلها نقاط قوة‏..‏ وهنا أقول بوضوح‏:‏ إن علي الفلسطينيين أن يتماسكوا وأن يحافظوا علي وحدتهم ويستكملوا البنية الأساسية لدولتهم وأن يستعدوا للانتخابات التشريعية المقررة في نهاية الشهر والتي يجب علي كل الفصائل أن تدخلها بروح تنافسية‏,‏ وليست عدائية للمحافظة علي وحدتهم‏,‏ لأنهم جميعا مازالوا تحت الاحتلال‏,‏ وسوف تكون هذه الانتخابات هي المقياس والإشارة الدالة علي أن الفلسطينيين قادرون علي إدارة دولتهم المستقبلية‏.‏

وفي تقديري أن القضية الفلسطينية العادلة أمامها فرصة ذهبية للخروج من قضية الفرص الضائعة إلي واقع مختلف‏,‏ فلأول مرة ينتعش الأمل في أن هذه الدولة‏,‏ لم تعد حقا فلسطينيا فقط أو مجرد رغبة عربية‏,‏ ولكنها أصبحت هدفا غاليا للقوي العالمية‏,‏ بما فيها أمريكا وأوروبا لصيانة الاستقرار والسلم العالميين وتجفيف منابع الإرهاب‏,‏ بل إن إسرائيل نفسها من الداخل‏,‏ وبكل أحزابها وتياراتها المتباينة‏,‏ أصبحت مدركة هذا الواقع حتي وإن لم تكن راغبة في إنهاء الصراع والاعتراف بالحقوق المشروعة للفلسطينيين‏,‏ ودولتهم المرتقبة‏.‏ وأخيرا أقول‏:‏ إنه يبقي بعد ذلك علي العقول القادرة علي التحاور أن تضع خطة طريق جديدة وعملية تشارك فيها الأطراف المباشرة‏,‏ وتواصل العمل بلا كلل أو يأس حتي قيام دولة فلسطين‏.‏

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى