مصـر بين عامـين 2005 أطول الأعوام

نعيش الآن لحظة انتهاء عام انقضي وقدوم عام جديد, وهذه اللحظة تضعنا أمام فرصة غير عادية للوقوف عند الحد الفاصل بين الأمس والغد. ومما يغري بالوقوف عند الأمس الذي تتساقط أوراقه سريعا بنهاية عام2005, أن ذلك الأمس كان مغايرا تماما لأعوام كثيرة وقفنا في نهاياتها نتأمل حصادها في حياتنا, أفرادا ومجتمعا. فلقد كان عام2005 أطول الأعوام خلال العقود الثلاثة الماضية, بكل ماتضمنه من تعقيدات وتشابك غير مسبوق للأحداث, وقد ربطت بينه وبين عام2006 ـ الذي نستقبله بعد غد ـ رابطة ربما تكون هي الأقوي بين الأعوام المتعاقبة. حيث كانت الأحداث سريعة ومتلاحقة ومثيرة لاهتمام الجميع سواء المشاركون فيها أو المتحاورون حولها. وأخذتنا أحداث هذا العام بغير ما أخذتنا به مجريات أعوام أخري سابقة, وانتهت بنا إلي حالة من الترقب والانتظار لما سوف يأتي به العام الجديد الذي تنعقد فيه الآمال علي حصاد بذور زرعناها في العام المنتهي. وتبدو الدلائل حتي الآن مشجعة وباعثة علي التفاؤل الذي نحتاجه. فنحن نجتاز عاما إلي آخر اخترنا له بإرادة حرة قائدا عرفناه وخبرنا قدراته فانعقدت عليه إرادة الأمة, وبرلمانا خضنا من أجله أكثر الانتخابات البرلمانية إثارة. كما تبدأ حكومة جديدة مهامها, لتكتمل في مطلع هذا العام منظومة جديدة تبعث الأمل في مستقبل نستشرفه ونراه مختلفا كثيرا عن الأمس الذي نودعه. ويأتي خطاب تكليف الحكومة الجديدة مؤكدا التواصل القوي بين عامين. فقد حدد فيه الرئيس حسني مبارك مهام الحكومة الجديدة في الغد, بما تعاقد معه الشعب عليه في الانتخابات الرئاسية بالأمس, من رؤية واضحة لمعالم المرحلة المهمة المقبلة وأهدافها, وهي رؤية ترتكز علي مواصلة الإصلاح الديمقراطي, وترسيخ دولة المؤسسات القائمة علي احترام الدستور والقانون, وحماية حقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية, وتعزيز استقلال القضاء, واستمرار الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بما يحقق الارتقاء بمستوي معيشة كل اسرة مصرية. وقد أعاد الرئيس ـ في خطاب التكليف ـ تأكيد ما أشار إليه في افتتاح الدورة البرلمانية من تمسكه بالعمل مع المجالس النيابية لوضع برنامجه الانتخابي بكل محاوره موضع التنفيذ. وهكذا نبدأ عاما جديدا بمسئولية تضامنية بين الحكومة والبرلمان علي الشروع في تنفيذ هذا البرنامج الطموح. الانتخابات عملية ضرورية لا تستقيم الأمور بدونها | |
وتفرد المؤشرات ـ التي تبدت لنا قبيل بداية العام الجديد مكانة خاصة لعام2005 بين الاعوام التي سبقته. حيث دعي فيه الشعب إلي الاختيار وإبداء الرأي ثلاث مرات بالاستفتاء علي تعديل الدستور, وانتخاب رئيس الجمهورية, ثم اختيار أعضاء مجلس الشعب.. وهذه الفرص الثلاث لم تقف بتأثيراتها عند حدود النتائج المباشرة المترتبة عليها, ولكنها تجارب اختزنتها الذاكرة الجماعية المصرية في مساعيها الجديدة نحو مجتمع حر قائم علي التعددية وقبول الآخر. فالانتخابات هي اهم آليات الديمقراطية ولا تقوم بغيرها أو تستقيم بدونها. وقد كانت عملية لازمة وضرورية لمجتمع ظل سنوات طويلة عازفا عن الحوار والمشاركة السياسية. وبالرغم من تدني نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة, فإن الحوار السياسي علي كل المستويات قد فاق كل تصور, وكان مقدمة طبيعية للمزيد من المشاركة التي أصبحت جزءا من الحوار نفسه. كما أن الانتخابات ـ بإيجابياتها وسلبياتها وعنفها ـ كانت وسيلة للتنفيس عن رغبة ملحة في التغيير وفرصة للتخلص من مشاعر اليأس والإحباط. ولذلك اصبح ضروريا أن تؤخذ الانتخابات بالجدية الملائمة لاهميتها في تعميق الممارسة وحق الاختيار. لافرق في ذلك بين انتخابات النوادي والنقابات والبلديات أو انتخابات البرلمان. فهي عملية فرز وتجسيد لإرادة الناخبين وتنمية مهارات الاختيار لديهم. والحقيقة أن عام2005 قد فتح بابا واسعا أمام تيار جديد من الهواء, أنعش ثقافتنا السياسية, وجدد الأمل في مستقبلنا الديمقراطي. وعلي الصعيد الاقتصادي شهد العام الذي يلملم أوراقه خطوات إصلاحية لها أهميتها التي توارت في ظل الحراك والصخب السياسيين. حيث انخفض معدل التضخم لأقل من4%, واستقر سعر الصرف ووصلت الاستثمارات الأجنبية إلي رقم غير مسبوق يقدر بـ1.2 مليار دولار وحقق النمو الاقتصادي معدلا يصل إلي6%. وكما تقول صحيفة الفاينانشيال تايمز البريطانية فإن مصر من المنتظر أن تصبح علي قمة الأسواق الواعدة, إذا استمرت علي هذا المنوال. وشهد العام أيضا زيادة في عائدات قناة السويس وانتعاشا سياحيا ساعد الحكومة علي زيادة احتياطي العملات الأجنبية ليقترب من22 مليار دولار. وارتفعت صادراتنا الزراعية إلي نحو1.5 مليار دولار, واقتربت صادرات الأثاث من مليار دولار وفرص العمل من1.5 مليون فرصة. وبالرغم من كل هذه الإنجازات التي أنقل أرقامها عن مصادر دولية, فإن المحك الحقيقي لهذه النتائج مرهون بمدي شعور المواطن بتحسن مستوي معيشته وتخفيف ضائقته الاقتصادية وتحسين الخدمات الحكومية وفي مقدمتها الصحة والتعليم.إذ ليس كافيا أن تكون الحكومة قد اقتربت بالاقتصاد المصري صوب حدود أكثر أمانا, فالمطلوب هو أن يقترب المواطن من حياة أكثر استقرارا وأقل معاناة. لقد كان الحراك السياسي عام2005 ناتجا عن تحركات حقيقية وخطاب سياسي صريح ومحدد المعالم. ومن الضروري أن يشهد عام2006 استمرارا للحركة الدءوب والخطاب الصريح المحدد. فلم تعد مشكلاتنا تحتمل خطابا بلاغيا مسكنا لأوجاعنا أو مداعبا لأحلامنا, وقد أثبتت الأيام أننا كل مرة تسلحنا فيها بالجرأة اللازمة والصراحة القاطعة كنا نحقق إنجازا ملموسا في مواجهة أي مشكلة نواجهها. ففي سنوات حكمه الأولي واجهنا الرئيس مبارك بأوضاعنا الاقتصادية, في خطاب رآه البعض صادما لمشاعر أمة اعتادت خطاب الأماني. إلا أن هذه الصراحة عبرت بنا كثيرا من الأزمات ووضعتنا علي طريق الإصلاح وفككت كثيرا من المشكلات المتراكمة وبالتالي أصبحت مواجهتها سهلة وميسورة. وقد جربت الحكومة اقتحام المشكلات في الضرائب والجمارك ومشكلات التعثر وسداد المديونيات واتفاقية الكويز وخفض سعر الصرف والحفاظ عليه فنجحت وأنجزت ما كانت تهدف إليه. ولم تبق إلا تلك المشكلات التي سبقت حلولنا إليها مشاعر الخوف والتردد. والأمل في أن يشهد عام2006 سياسات ومسارات وطرقا تساعدنا علي وضع نهاية حقيقية لمعظم هذه المشكلات. وعلي جانب آخر فإن زخم الأحداث السياسية المحلية قد أبعد الأنظار عن جهود هائلة بذلتها مصر علي الصعيدين الإقليمي والدولي استمرارا لدورها الحيوي والمؤثر. فلم تغب مصر عن الأحداث المتسارعة في العراق وفلسطين ولبنان وسوريا والسودان وكانت في كل هذه الملفات شريكا حقيقيا يسعي بكل الطرق لاستعادة الأمن والحق والسلام وإبعاد شبح الأخطار التي هددت المنطقة من داخلها وخارجها علي السواء. وكانت مصر لاعبا إقليميا مؤثرا في محيطها بنفس اللغة السياسية التي يفهمها عالمنا المعاصر.فلقد ساعدت العراقيين في مؤتمرات متعاقبة للمصالحة في القاهرة وشرم الشيخ في محاولة لاجتياز أزمتهم بعد الحرب, التي تعرض لها العراق وشاركت السودانيين في طي ملف أطول حرب أهلية والتي دامت20 عاما بين شمال السودان وجنوبه لتنهي أطول صراع في تاريخ القارة السمراء.كما ضمدت جراح أهل الجنوب بعد رحيل قائدهم جون قرنق في حادث طائرة, وعملت يدا بيد مع خليفته.كما عالجت مصر مع اللبنانيين والسوريين, بعقلية الحكيم العلاقات المفخخة بين البلدين بعد رحيل رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري في تفجير سيارته, في بيروت. ومازالت مصر تواصل دورها بمنتهي الحكمة لفك طلاسم أزمة يجب أن تنتهي وإلا فجرت براكين من الغضب والمخاوف في كل أنحاء الشرق الأوسط. وهذا ما سوف تزداد معه معاناة تلك المنطقة التي تعيش وسط أزمات عديدة من المشكلة الفلسطينية التي مازالت بدون حل ومرورا بالعراق والأزمة المرشحة في الشام وتأثيرات القضية الإيرانية وتداعياتها علي المنطقة. وإذا نظرنا بعمق وبلا تحيز إلي من يقوم بهذا الدور الكبير لاكتشفنا أنه الرئيس مبارك الذي يمسك بمهارة وعمق قدرات المواجهة ووضع الخرائط التي تفتح طريقا لوضع حدود لهذه الأزمات المتشابكة, سواء كانت بين أطراف خارجية أو من داخل منطقة الأزمة نفسها ولعل المثال الواضح لأسلوب الحكمة المصرية هو طريقة إدارة عملية الصراع العربي ـ الإسرائيلي فلسطينيا, بين الفلسطينيين وفصائلهم المتعددة بالحوار المستمر بين الفصائل, الذي وصل الآن لحوار داخل الفصيل الواحد. ولأن طول الصراع يؤثر علي الوضع الداخلي الفلسطيني, فإن مصر تدرك طبيعة الظروف والمعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني وفصائله وهو ما يزيد قدرتها علي حل المشاكل وتذليل الصراعات التي تظهر بين تلك الأطراف وصولا إلي نظرة متكاملة لطريقة التعامل مع إسرائيل ومن ثم الوصول إلي الحل النهائي. والحقيقة أن ما وضعه القدر علي كاهل مصر ورئيسها صعب. ولكن أحداث عام2005 قد كشفت قدرتها ومعدنها علي مواصلة مسئوليتها التاريخية, وهو ما يؤكد أنها في عام2006 ستكون الأكثر قدرة علي تجميع كل هذه الخيوط, وتصحيح المسارات وإنقاذ المنطقة مما يخطط لها وتدفعنا إليه قوي التطرف والتعصب سواء علي مستوي المنطقة, أو من صناع السياسة العالمية الذين اندفعوا بنا في طريق الحروب متوهمين أنها السبيل إلي الحل. فأثبتت الأيام عكس مايتصورون ليعود صوابهم نحو عمق الرؤية المصرية وهي أن الحروب ليست حلا في مواجهة التطرف والإرهاب ولكنها طريق لتعميق الكراهية والمخاوف بين الشرق والغرب. عام الانتخابات العربية وبصفة عامة فإن العرب في عام2005 قد عرفوا الانتخاب ـ كليا أو جزئيا ـ وبدءوا في ممارسة واحدة من أهم آليات الديمقراطية تلك الفريضة السياسية التي غابت طويلا عن ثقافتهم, بدءوا طريقا مليئا بالعقبات ولاسبيل غير السير فيه. فالمضي في طريق الديمقراطية كفيل بتنمية الثقافة العربية وتهيئتها لقبول الآخر ودعم مبدأ المواطنة والمساواة والسيادة الوطنية ومناهضة العصبية القبلية أو العشائرية أو الطائفية. وهذه المسيرة العربية علي طريق الديمقراطية بحاجة إلي قدر عال من التفهم لطبيعة المجتمعات العربية والإطار الزمني اللازم لبلوغ ممارسة ديمقراطية حقيقية. كما أن هذه الممارسات الانتخابية العربية كليا أو نسبيا هي نقطة البداية وسوف تختصر المسافة الفاصلة بين اكتشاف الطريق والسير فيه. مصر مرة أخري والنمو السكاني وتبقي كلمة أخيرة قبل أن ينقضي عام2005: وهي أنه وفقا لآخر التقديرات فإن عدد سكان مصر قد بلغ77 مليونا ونصف المليون نسمة بالتمام والكمال. فهل نعي خطورة هذا الرقم؟ | |