القمة المصرية ـ الأمريكية آفاق جديدة للشرق الأوسط

انتهت زيارة الرئيس حسني مبارك لواشنطن, وانتهت بها ومعها سنوات الجفاء والتوتر في العلاقات المصرية الأمريكية. فلقد فتحت الزيارة آفاقا رحبة أمام مشاركة أكثر فاعلية ووضعت أسس تحرك مصري ـ أمريكي إيجابي في معالجة أزمات المنطقة, فالسنوات التي ساد فيها الجفاء علاقات الدولتين تركت الكثير من التأثيرات السلبية علي الأوضاع في الشرق الأوسط, وقد اعتادت واشنطن أن تستقبل الرئيس مبارك سنويا لمحادثات تجدد المشاركة المصرية ـ الأمريكية وتضمن التفاهمات بشأن المتغيرات الكثيرة التي تجري بها الأحداث في الشرق الأوسط. | |||||
ولكن مبارك غاب عن واشنطن خمس سنوات وكان لهذا الغياب تأثيره الواضح في السياسات الأمريكية في المنطقة التي أوجدت الكثير من المشكلات والأزمات, وكان انقطاع زيارات الرئيس عن واشنطن دليلا علي تحفظ مصري واضح علي سياسات الولايات المتحدة في عالمنا العربي, خصوصا في قضيتي السلام والعراق, كما كشف لي الرئيس مبارك في حديثه المهم للأهرام قبل لقاء القمة بيوم مع الرئيس أوباما, وبعد تلك السنوات كانت معطيات الواقع تشير إلي سلامة الموقف المصري وصحة تقديراته وأخطاء سياسات الإدارة الأمريكية السابقة التي تخضع الآن لمراجعة شاملة. صحيح أن المشاركة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة لم تتوقف ولكنها تعطلت وتراجعت وأفرزت توترا لاسبيل إلي إنكاره, ولم تؤد إلي النتائج المأمولة من الجانبين, وفي إطار المراجعة الشاملة للسياسات الأمريكية استعادت العلاقات المصرية ـ الأمريكية مساحات من التفاهم كانت قد تراجعت في ظل الإدارة اليمينية السابقة. وجاءت زيارة الرئيس مبارك لواشنطن هذه المرة لتؤرخ لمرحلة جديدة, وتؤكد ثوابت التفاهم الاستراتيجي التي تجاوزت الإدارة السابقة بعضا منها علي أسس جديدة. لقد كان حضور الرئيس مبارك في واشنطن قويا ومؤثرا بعد غياب دام خمس سنوات. وقد أحاطت الإدارة الأمريكية الرئيس بحفاوة ملحوظة, وأنصتت لتحليلات رجل يعرف جيدا مسارات الأحداث في المنطقة التي يعيش مشكلاتها وأزماتها, وحين وصل مبارك إلي العاصمة الأمريكية لم يكن يحمل معه تغييرا في ثوابت مواقفه المعلنة من أزمات الشرق الأوسط. وكان نجاح زيارته مرهونا بتفهم الإدارة الأمريكية الجديدة لهذه المواقف, بل إن الإعلان عن الزيارة في حد ذاته جاء تعبيرا عن عقلية جديدة تولت مقاليد الأمور في البيت الأبيض, وعن تغير في المواقف الأمريكية السابقة واقترابها من ثوابت الموقف المصري. نعم قوبل الرئيس مبارك بحفاوة ملحوظة من الإدارة الأمريكية تعكس تطورا له مغزاه في إدراك مكانة الرئيس, وأهمية ما يقدم من تحليلات وما يطرح من رؤي أثبتت الأيام أنها كانت عميقة وثمينة, وكفيلة بتجنب الكثير من الأزمات والمشكلات, وهذه الحفاوة الرسمية بالزيارة تؤكد أهمية الزائر وأهمية ما يقول في صياغة استراتيجية أمريكية جديدة في المنطقة تعالج بها الإدارة الحالية تركة الإدارة السابقة, وعلي مستوي استقبال المصريين المغتربين للرئيس كانت الحفاوة مصرية خالصة تعبر عن حب عميق ووطنية صادقة واعتزاز بالرئيس وزيارته, حيث جاء المصريون من ولايات أمريكية بعيدة يعبرون عن مشاعر الحب والامتنان والتقدير. وقد جمعتهم مصريتهم وحبهم لزعيم بلادهم وبينهم المسلم والقبطي والنوبي في مظاهرة تعكس مكانة الرئيس وتعبر بلغة مصرية عن الفرحة باللقاء. وكانت الطبول والزغاريد وفوانيس رمضان والانفعالات المصرية تفيض حبا وتقديرا واحتراما. وصاحب المصريون رئيسهم من مقر إقامته إلي البيت الأبيض في مظاهرة تأييد واعتذار عما يقوم به بعض ذوي المصالح من تزييف الحقائق وتشويه وجه الحياة في مصر, وكان استقبال المصريين للرئيس مظهرا من مظاهر الحب الجارف الذي أضفي علي الزيارة بعدا آخر. ولا يمكن تقييم نتائج زيارة الرئيس مبارك لواشنطن إلا في ضوء الأهداف المعلنة لتلك الزيارة, فلم يذهب الرئيس إلي واشنطن للتفاوض مع الرئيس الأمريكي حول تفاصيل وآليات التحرك في مواجهة مشكلات المنطقة التي يمكن أن تتم علي مستويات تنفيذية أقل من مستوي قمة الرئيسين, فهناك مشاركة استراتيجية مصرية ـ أمريكية قائمة منذ سنوات, قد تعرضت لأزمة مع الإدارة السابقة نتجت عنها خلافات استراتيجية علي الجانبين المصري والأمريكي بشأن القضايا الخارجية وليس فيما يخص الشأن المصري الداخلي. ولذلك أعادت هذه الزيارة تأكيد التفاهم الاستراتيجي بين قوتين لهما تأثيرهما القوي في المنطقة المتخمة بالأزمات التاريخية والمعاصرة, وفي هذا الإطار يمكن القول إن الزيارة حققت أهدافها وأعطت العلاقات المصرية ـ الأمريكية قوة دفع هائلة تعوض بها سنوات التراجع الماضية, وسوف تشهد الأيام المقبلة العديد من التفاعلات الإيجابية التي أفرزتها زيارة الرئيس لواشنطن سواء علي مستوي القضايا الإقليمية وخاصة القضية الفلسطينية أو علي مستوي العلاقات الثنائية بين الدولتين. وبرغم أن الزيارة ركزت علي الأوضاع في الشرق الأوسط, فإن الرئيس مبارك بادر في حديثه للصحافة الأمريكية وفي مؤتمره الصحفي مع أوباما بالرد علي تساؤلات حول الأوضاع الداخلية في مصر, ووضع النقاط فوق الحروف عن اهتمامه بالإصلاح السياسي وببرنامجه الانتخابي الذي أعلنه قبل ترشحه للانتخابات الرئاسية, والسياسات الإصلاحية النابعة من الداخل المصري. وكان تأكيد مبارك علي متابعة البرنامج الانتخابي حتي موعد الانتخابات المقبلة للرئاسة في عام2011 مبعثا لاطمئنان كبير لدي الأمريكيين علي استقرار الأوضاع في مصر وبالتالي في الشرق الأوسط, حتي أن بعض الصحف الأمريكية قالت أن مبارك سوف يرشح نفسه للانتخابات المقبلة وحين سئل الرئيس في حديثه للتليفزيون الأمريكي قال إنه لم يفكر في ذلك بعد. وكانت الصراحة والوضوح اللتين تحدث بهما عن الأوضاع الداخلية والإصلاحات الدستورية موضع إعجاب الكثير من وسائل الإعلام في الولايات المتحدة, وهو ما يعني الثقة في قدرة مصر علي المضي قدما في المسارات الصحيحة ويعكس أهمية وقوة مصر الداخلية المؤثرة في محيطها وعالمها. بدأت زيارة الرئيس في توقيت له أهميته الخاصة بالنسبة لملفات الشرق الأوسط المدرجة علي أجندة الإدارة الأمريكية الجديدة, فقد أخفقت السياسة الأمريكية كثيرا ولسنوات في إدارة أزماتها في المنطقة وجاءت الإدارة الجديدة بمراجعة شاملة للسياسة الأمريكية داخليا وخارجيا, وكان عليها أن تستمع لأكثر الأصوات حكمة وتأثيرا وأقدرها علي مساعدة الأمريكيين في معالجة أخطاء السنوات الماضية في المنطقة, خاصة أن تردي الأوضاع بسبب سياسات الإدارة الأمريكية السابقة يفرض نهجا مختلفا وإرادة أقوي علي اقتحام المشكلات ووضع نهاية لها, ثم إن الزيارة تأتي أيضا في وقت يشهد تحولا ملموسا في مستويات الوعي العام الأمريكي بشأن الصراع في الشرق الأوسط وربما كان هذا التحول بطيئا ولكنه قائم ويستدعي العمل المستمر لدفع هذا الوعي إلي مستويات يمكن أن تمارس الكثير من الضغوط علي صناعة القرار في الدولة العظمي بما يحقق شيئا من التوازن تجاه قضايا المنطقة, فالحوارات التي تدور هنا في واشنطن مع كثيرين توحي بأن تغيرا قد بدأ وأن فهما جديدا لحقيقة الأوضاع في الشرق الأوسط قد أصبح قائما, وربما تمثل زيارة الرئيس مبارك أقوي دفعة تأتي من العالم العربي لهذا الفهم الجديد, وهذا الوعي المتنامي في هذا التوقيت. ففي لقاء الرئيس مع قادة المنظمات اليهودية الأمريكية كان هناك شيء من التغيير في موقف الكثيرين في هذه المنظمات, وكان التغير باديا نحو السلام وظهرت بينهم التحذيرات بشأن الفرص المتاحة للسلام الآن, وربما كان مبارك هو القائد العربي الوحيد الذي يمكنه الحديث والتأثير في التجمعات اليهودية الأمريكية, فقد عرفه الجميع أحد أبرز دعاة السلام في المنطقة وأكثر الذين بذلوا في سبيل التسوية السلمية الوقت والجهد, وفي سبيل ذلك تحمل ما لم يتحمله قائد عربي آخر, وكان مبارك مقنعا ومؤثرا في حديثه للمنظمات اليهودية التي يعلم تأثيرها في إسرائيل وفي الولايات المتحدة علي السواء. وبدد المخاوف من السلام وحذر من ضياع فرصته المتاحة الآن وذكر الجميع بما يمكن أن يأتي به المستقبل للقضية إن ضاعت اليوم مساعي السلام. لقد تحدث الرئيس عن قضايا المنطقة وهو يعلم أن مشكلات الشرق الأوسط لم تعد بعيدة عن الشأن المحلي الأمريكي بل هي اليوم أقرب من أي وقت مضي لهموم الداخل الأمريكي, فالحرب في العراق اصبحت جزءا من الهم الداخلي بسبب تكلفتها الباهظة وتأثيراتها التي فاقمتها الأزمة الاقتصادية العالمية. وأصبحت مواجهة مشكلات الداخل تمر قسرا بمشكلات الشرق الأوسط, كما أن الوضع في العراق وارتباطاته بملفات إقليمية متعددة جعل الإدارة الأمريكية تنظر إلي القضية الفلسطينية بمنظور مختلف حيث أثبتت السنوات الماضية أن المشكلة الفلسطينية شديدة التداخل مع مشكلات الشرق الأوسط الأخري. وقد أصبحت المشكلة الفلسطينية جزءا من مشكلات الداخل الأمريكي, وهي رؤية تتفق فيها الإدارة الأمريكية مع جماعات أخري كثيرة وفي مقدمتها الأمريكيون اليهود وجماعاتهم ذات التأثير الكبير في صناعة القرار بالولايات المتحدة, واصبح التأخر في التوصل إلي تسوية للمشكلة الفلسطينية مثار قلق العديد من الدوائر الأمريكية, ولم يعد بمقدور الرئيس أوباما الهروب من جهود حقيقية للتسوية أو المماطلة فيها كسبا للوقت. فقد استنفدت سياسات الخطوة خطوة الكثير من الوقت والجهد ولم تسفر عن شيء, ومن العبث العودة إليها ولذلك أكد الرئيس مبارك في حواره للتلفزيون الأمريكي أهمية العمل من أجل الحل النهائي للمشكلة برغم الصعوبات التي تواجهه. إن محادثات مبارك في واشنطن بشأن القضية المحورية في الشرق الأوسط سوف تزيد من فهم الإدارة الجديدة لتاريخ القضية وتداعياتها وتعقيداتها بما يسهل مهمة التحرك نحو الحل. فالموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية يحتاج اليوم إلي الكثير من المساعدات التي تدعمه في مساعيه الجديدة ودعم قدراته في مواجهة القوي المناوئة له سواء داخل الولايات المتحدة أو داخل إسرائيل, فالموقف الأمريكي من المستوطنات مازال قادرا علي مواجهة الضغوط والتوصل إلي صيغة تكفل استمرار جهود السلام نحو الحل الشامل والنهائي. إن تجربة التعامل مع التحليل السياسي المصري لأزمات المنطقة من جانب الإدارة الأمريكية السابقة كفيلة بترشيد كثير من السياسات الأمريكية الجديدة وتبصيرها بحقيقة الأوضاع علي الأرض في فلسطين والسودان والعراق وإيران والصومال وغيرها, ولذلك كان هناك حرص واضح علي الاستماع والتفاعل مع ما يقوله مبارك بشأن أوضاع المنطقة بصفة عامة, فالمشكلة التي أوقعت الأمريكيين في سلسلة مشكلات أكبر هي أنهم جاءوا إلي المنطقة بكثير من القوة وقليل من المعرفة بمنطقة شديدة التعقيد, وتطلب الأمر سنوات حتي يعرفوا حقيقة الأوضاع, وكانت المشكلات قد وصلت إلي مستوي عال من التعقيد, ويبدو لي أن الأمريكيين اليوم يعرفون جيدا لمن يستمعون في الشرق الأوسط. | |||||