إدارة الأزمات أم افتعالها ؟ عودة الصيادين.. وأزمة مياه البرادعة

متي يدرك البعض أننا نعيش في مجتمع يفوق كميا ثلاثة أضعاف ما كان عليه في نهاية الستينات, وضعفي ماكان عليه في نهاية السبعينات؟ أما كيفيا فالأضعاف مضاعفة بالاحتياجات والتطلعات ومستويات المعيشة, لكن هذه الحقيقة تغيب عنا كثيرا ونحن نتعامل مع مشكلاتنا.. الصغيرة منها والكبيرة, وعلينا أن ندرك أن مصر ليست هي التي كانت في الستينات أو السبعينات, وهذا هو مفتاح التعامل الرشيد مع الواقع المصري الآن. خلال الأسبوعين الماضيين انشغل الرأي العام المصري بحدثين لكل منهما أهمية خاصة.
الحدث الأول ماوقع من اختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الشرب مما أدي إلي إصابة العديد من سكان قرية البرادعة بالتيفود. أما الحدث الثاني فكان تحرير الصيادين المصريين المحتجزين في الصومال بفعل القرصنة البحرية التي تمارسها بعض الفصائل الصومالية منذ سنوات. وبرغم التغطية الإعلامية المكثفة للحدثين معا, إلا أن خلط الأوراق وتعدد الأطراف والاجتهادات والآراء التي تساق علي أنها وقائع غيبت الحقيقة في الحدثين معا, وأصابت الرأي العام بالتشويش والبلبلة في كثير من الأحيان.
وبرغم الاختلاف في طبيعة الحدثين, إلا أن هناك ما يجمع بينهما:
أولا: إن البعض منا يرغب في خلق الأزمات أكثر مما يرغب في إدارتها والوصول بها إلي حلول, فالإفراج عن الصيادين المحتجزين وتحريرهم من قبضة القراصنة بعد أيام طويلة من المعاناة تحول إلي أزمة بدلا من أن يكون إنجازا حقيقيا, وفرحة بعودة المحتجزين إلي أهلهم وذويهم, وما حدث في قرية البرادعة كان يمكن مواجهته دون أن يتحول إلي أزمة طاحنة تتبادل فيها الأجهزة الحكومية ذاتها الاتهامات, ويلقي كل طرف بالمسئولية علي غيره كسبا لشعبية لامعني لها في مواجهة أزمة طارئة تستدعي العمل الجماعي بين هذه الأجهزة.
ثانيا: الرغبة الشديدة لدي البعض في تحميل الحكومة المسئولية الكاملة عن كل أزمة تسبب فيها نفر هنا أو هناك, وغالبا ما يتم استثمار الأزمة للهجوم علي الحكومة دون تحديد أبعاد مسئولياتها, وكذلك مسئولية الأطراف الأخري, فإرسال مراكب الصيد الخاصة إلي مناطق خطرة ليس مسئولية الحكومة.
وحين وقع الاختطاف كانت هناك اعتبارات شديدة التعقيد تحكم تحرك الخارجية المصرية, أبسطها أنها لايمكن أن تعلن للناس في كل يوم الذي فعلته, والذي تخطط له أو حتي الذي تفكر فيه. لكن بعضنا شديدو الولع بالحكم علي الأشياء دون أن تتوافر لديهم الحدود الدنيا من المعلومات اللازمة للحكم. بل يفكر بعضنا بعقلية مشاهد كرة القدم, الذي يرصد أخطاء الحكام والمدربين وهو قابع أمام جهاز التلفزيون. وكذلك الذي حدث في البرادعة.. قليل من المعلومات وكثير من الأحكام دون اعتبار لعشرات من الخبراء, الذين يجمعون المعلومات ويحللونها لكشف الحقيقة في النهاية, ولكنها سوف تكون باهتة حين تأتي, وقد ترسخ لدي البعض أن هذه الجهة قد أخطأت وتلك قد أجرمت.
ثالثا: إننا بحاجة إلي التدريب علي إدارة الأزمات حرصا علي مصالح الأطراف المختلفة, وحرصا أيضا علي الرأي العام, الذي يريد أن يصل إلي الحقيقة. ففي حالتي تحرير الصيادين ومرضي البرادعة تركنا الأحداث تمضي وحدها, فتحولت إلي أزمة وعشوائية في المعلومات, التي تناثرت معها الاتهامات يمينا ويسارا.
ما حدث في البرادعة
إصابة المئات من سكان البرادعة بالتيفود كان حدثا أثار الخوف لدي الكثيرين. ومهما تكن خطورته فلا ينبغي أن يتحول إلي مأتم وطني ننعي فيه شركاتنا ومؤسساتنا.. هناك أخطاء ارتكبت ولكنها الآن قيد التحقيق, وعلينا أن ننتظر ذلك قبل أن نهيل التراب علي رءوس من عملوا طويلا من أجل تزويد القري المصرية بمياه الشرب النقية, جاءت حادثة البرادعة لتغتال فرحة ربما لايعرفها الكثيرون ومنهم المتربصون بكل إنجاز للحكومة.
إن البرادعة قرية من بين آخر240 قرية محرومة من مياه الشرب النقية علي مستوي الجمهورية.
ومن بين هذه القري14 قرية في محافظة القليوبية. والبرادعة هي آخر خطوط مياه الشرب لهذه القري في هذه المحافظة, وقد انتهي العمل في شبكة المياه عام2006. ولكن لم يتم ضخ المياه في الشبكة من الآبار الارتوازية, حيث تقوم وزارة الإسكان ببناء محطة عملاقة في القناطر لتغذية شبكات هذه القري الأربع عشرة بمياه النيل بدلا من الآبار, فتركت الشبكة دون تشغيل ثلاث سنوات ونصف السنة, وكان من الطبيعي أن تظهر فيها بعض الأعطال لأنها ظلت بمحابسها دون عمل طوال هذه المدة, ولم يتم تسليمها
ولم تعط شهادة صلاحية للتشغيل بعد.. وفجأة ظهرت بعض حالات التيفود, وبدلا من البحث المتأني في أسباب ظهور هذه الحالات, خاصة أن هناك مصادر متعددة للمياه في قرية البرادعة, التي تشتهر بتربية المواشي, وهي بلا صرف صحي, فقد تم توجيه الاتهامات سريعا لشركة المقاولون العرب, التي تولت مشروع توصيل مياه الشرب لعدة آلاف من القري المصرية. وبدلا من أن نشد علي يد الشركة العملاقة, التي قدمت لمصر العديد من المشروعات الكبري ولاتزال
ألقينا في وجهها باتهامات لم تثبت حتي الآن.. بعضها اتهامات مفزعة من أخطاء في التصميم إلي غش في المواسير. وهو كلام لايليق بشركة عملاقة هي الأكبر في الشرق الأوسط بأسره, إذ كيف يمكن اتهام شركة بهذا الحجم تضم65 ألف شخص وتنتشر مشروعاتها في24 دولة عربية وأفريقية, كما أنها شركة لها تاريخها في بناء السد العالي, وحائط الصواريخ ومئات الكباري والمشروعات الكبري, أقول كيف نتهمها بارتكاب أخطاء في تصميم خط مياه قرية البرادعة؟
قد لايعلم الكثيرون أن محافظة القليوبية هي المحافظة الوحيدة, التي رفضت الدخول تحت عباءة الشركة القابضة للمياه, التي تكونت بهدف إدارة مياه الشرب بمستوي فني وهندسي وعلمي مرتفع, وبأسلوب اقتصادي يضمن جودة مياه الشرب.. ولست أعرف جيدا لماذا رفضت محافظة القليوبية المشاركة في هذه السياسة الجديدة؟ لقد أوجدنا أزمة, ولم نفلح في إدارتها وبدلا من أن نحتفل بإنجاز غير مسبوق في حياة المصريين بوصول مياه الشرب لكل قرية مصرية, ونشد علي أيدي كل من أسهم في هذا الإنجاز, تحولنا إلي تبادل الاتهامات, وافتعال أزمة نهيل بها التراب علي إنجاز تاريخي كان يستحق منا التقدير والعرفان, بدلا من الاتهامات, التي تتناثر يمينا ويسارا بلا دليل أو تمحيص.
إن قضية المحليات تعيد طرح نفسها بشدة في أزمة البرادعة, فنحن نفكر منذ سنوات في تخفيف المركزية المصرية العريقة, ولدي الحزب الوطني خطط في هذا الاتجاه لتفجير طاقات المحليات لتكون دعما في جهود التنمية, ولكن هذا التفكير يحتاج منا إلي أن نفرق بين المشروعات القومية والمشروعات المحلية, وإعداد الكوادر, التي تستطيع تنفيذ خطط الحزب والحكومة في تخفيف ضغوط المركزية الحكومية, وإلا فإننا سوف نقع في مشكلة إدارة اللامركزية, التي نريدها في المستقبل.
افتعال أزمة أخري
أيضا كان تحرير الصيادين المحتجزين عملا ناجحا ومفرحا لكل مصري, سواء لقي الصيادون في عملهم مساعدات من هنا أو هناك أو لا. فهم اليوم في بيوتهم يسعدون بأهلهم ويسعدونهم. ولكننا كالعادة حولنا الحدث إلي أزمة تناثرت فيها الاتهامات لتنال أطرافا كثيرة, ولقيت الخارجية المصرية نصيبها من الاتهامات الطائشة. فاتهمت بأنها لم تقم بدور في التحرير والوزارة لم تدع ذلك يوما, وليس من اختصاص أي وزارة للخارجية أن تخطط, أو أن تنفذ عملا ما لتحرير الرهائن, وإنما هي تعمل من خلال قنوات دبلوماسية وسياسية يفرضها القانون المصري والدولي والأعراف الدبلوماسية, والعمل الدبلوماسي كتوم بطبيعته
ولكن البعض يريد في كل موقف أن ينصب نفسه قيما علي الجميع, ويريد كشف حساب من هذه الوزارة وتلك المؤسسة.
الحقيقة أن الصيادين لم يكونوا المصريين الوحيدين المحتجزين في الصومال, كما قال الوزير أحمد ابو الغيط, وكان ضروريا أن تتخذ الوزارة التدابير الكفيلة بحماية وسلامة الجميع, وقد نجحت مصر في تحرير مصريين آخرين دون فرقعة إعلامية, ومن الغريب أيضا أن يتهم البعض الوزارة بتقاعسها عن دفع الفدية المطلوبة, إذ أي قوانين تسمح لوزارة الخارجية بدفع الأموال العامة ثمنا لأخطاء أصحاب المراكب, الذين يعلمون جيدا خطورة الإبحار قرب السواحل الصومالية, وتم تحذيرهم مرارا من عواقب هذا العمل. ثم هل تدفع الخارجية فدية كل اختطاف يقوم به القراصنة للمصريين ؟ ولسنا نعرف في تاريخ القرصنة الصومالية أن دولة دفعت فدية لإطلاق سفن مملوكة لشركات أو أفراد, وما حدث في الصومال سوف يحدث مادام البعض يصمون آذانهم عن التحذيرات, التي تطلقها الخارجية المصرية, مثلما لايستمع البعض أيضا لتحذيرات الوزارة من الهجرة غير الشرعية لأوروبا فيبتلع البحر شبابا مصريين يسعون وراء الوهم والسراب, الذي يروج له البعض من محترفي تهريب البشر.
إن ما وقع في البرادعة وعودة الصيادين المصريين يفرض علينا تطوير آلية أكثر فاعلية في إدارة ما نواجه من أزمات. فقد أصبح المجتمع المصري أكبر مما نتخيل وأعقد مما نتصور, ومن الطبيعي أن يواجه مشكلات أكثر تعقيدا تتطلب أسلوبا مختلفا في التعامل معها حتي لاتحظي مشكلاتنا الصغيرة بالتضخيم, الذي يعطيها حجما أكبر من حجمها وتأثيراتها.